قليل من لا يعرف الكثير عن الروائي العربي الأشهر نجيب محفوظ، أما قراؤه فلا يمكن أن تبرح ذاكرتهم عوالمه الروائية المدهشة. ولكن يندر من المثقفين -وحتى الأطباء منهم- من يعرف اسم الطبيب نجيب محفوظ الذي سُمي الروائي على اسمه، فقد كان هو الطبيب الذي أشرف على ولادته، فتشابُه الاسمين لم يكن صدفة.
حين وجدت على أحد أرصفة الكتب في القاهرة كتاباً، مؤلّفه نجيب محفوظ الطبيب، اعتقدت للوهلة الأولى أن تجار الكتب قد بعثوا أوراقاً ميتة لهذا الطبيب، ربما وجدت سبيلها للبيع بحكم مشابهة اسم مؤلفها لاسم الروائي نجيب محفوظ، لكن بمجرد أن أخذت في تصفح الكتاب وجدت أن الكتاب قد طُبع قبل أن يصبح الروائي مشهوراً، ولا أظن أن الطبيب نجيب محفوظ قد قرأ شيئاً للروائي محفوظ وإلا كان قد ذكره بين من ذكر ممن قام باستيلادهم. وقد أدركت بعد أن قرأت مذكرات الطبيب، أن كلا النجيبين قد كان له من اسمه أوفر نصيب.
قدم للطبعة الثانية من الكتاب الأديب طه حسين، وإنك إذ تقرأ مقدمة العميد تدرك أنها لم تكن من المجاملات التي عهدها البعض في كتاباته والتي إن وجد نفسه مضطراً إليها، فإنه عادةً ما يوحي لقارئه اللبيب بما يدعه لا يأخذ كلامه على محمل الجد؛ بل إن مقدمة العميد هنا حافلة بإطراء مستحق، لا تدع قارئاً يحتار في صدق انبهاره بهذه الذكريات.. "هذا كتاب ممتع إلى أقصى درجات الإمتاع، فيه ألوان من الفائدة لا تكاد تحصى، فيه العبرة وفيه الموعظة وفيه أسوة للشباب، وفيه المتعة التي تجدها في كتاب عرف صاحبه كيف يكتبه، لا تجد فيه تكلفاً، ولا تجد فيه إهمالاً، ولا مبالغة من هذه المبالغات التي يتورط فيها كثير من الذين يتحدثون عن أنفسهم، وإنما هو سائغ ميسر منذ أن تبدأ قراءته إلى أن تفرغ منه، وهو بعد ذلك مُغر بإعادة قراءته، وقد قرأته مرتين، وأكبر الظن أني سأقرؤه للمرة الثالثة".
ثم يستفيض العميد في مقدمته على هذا النحو، فيقطع على أمثالي أي تردد في قراءة الكتاب، ثم تنتهي المقدمة بهذه العبارة التي توجز فتعبر أفضل تعبير عن المذكرات "وهو نفسه يعرف كيف يستخرج العبرة من حياته، وكيف يجد مواضع العظة والتأمل، بحيث نقرأ كتابه فنكاد نعتقد أنه لم يكتب لنا إلا حديثه الخاص إلى نفسه".
أول ما تلمحه في هذه الذكريات التواضع وروح الأبوة نحو الأطباء الذين تعلموا منه أو الذين يقرأون مذكراته، فهو قد كتب مذكراته وفي نيته أن تكون موقوفة على أسرته؛ بناته وأزواجهن وحفدته، لكنهم يلحّون في أن يحتويها كتاب ينشر على الناس.
ويستدرك أنه لم يكن يطيب له أن يتحدث عن نفسه، فالحديث عن النفس لا يخلو من غضاضة ولا يَسلم من الارتياب، ثم يذكر أن ما أغراه بالموافقة علي نشر الكتاب أن حياته لها أوثق الارتباط بتطور مدرسة الطب المصرية؛ بل بتطور الطب نفسه.
ثم يترك نفسه ليفيض بالحكمة على الأطباء بعدد من الوصايا الأخلاقية الرفيعة، التي تؤكد لك كل صفحة من ذكرياته أنها كانت دستور حياته وسر نجاحه، النجاح الذي -حسب علمي- لم يرتقِ إلى مثله أي طبيب في أمراض النساء والتوليد في العالم العربي الحديث، فهو مؤسس قسم الأمراض النسائية بكلية طب قصر العيني أُم كليات الطب العربية، ومؤلف أول كتابين جامعيَّين عن هذا الطب يدرّسان بالعربية فيها، ومنشئ متحف أمراض النساء والتوليد الذي وصل عدد معروضاته إلى 3 آلاف قطعة، كلها من حصاد جراحاته.
كما ألّف أطلس محفوظ في النساء والتوليد، يضم شروحاً لكل العينات وخصائصها التشريحية ورسوماتها الجراحية، وقد شُرح بـ7 لغات، إحداها العربية، وطُبع في إنكلترا، كما كُرّم بحصوله على الزمالة الفخرية في الطب ببريطانيا في العام نفسه الذي مُنحت فيه لمكتشف البنسلين، وهو حاصل على أعلى جوائز الدولة في مصر مرتين بالعصرين الملكي والجمهوري.
أجد لزاماً عليَّ أن أقول إنني فُتنت بهذه المذكرات افتتاناً كبيراً، فمن أكثر ما جذبني في مذكرات الطبيب نجيب محفوط، جمالُ حديثه عن سر الخليقة كما يبدو في جمال خلق الله. وفي الفصل الذي يتحدث فيه عن القضاء والقدر، يظهر كم هو مطمئِن إلى عدالة الله المطلقة، يقول: "… ومن منا لا يذكر القضاء المحتوم والقدر المكتوب في معرض المواساة والعزاء؟ وكم شَفَتْ هذه الجملة وأمثالها قلوب الثاكلين!".
ثم يعقّب: "ولكنني في قرارة نفسي، لا أطمئن إلى أن الله الذي ليس لكماله حد، يعاقب امرأً على شرّ فرضه عليه فرضاً، ولا حيلة له فيه. كما أنه لا يثيب امرأً على خير لم يكن له فضل في اختياره، والتمادي في الركون إلى أن الإنسان لم يكن يستطيع التخلص مما فعل، يسوغ لبعض ذوي العقول السقيمة والقلوب المريضة أن يتردوا في مهاوي الرذيلة، وأن ينساقوا في تيار الغواية والإثم".
هذا الفهم الراقي هو ما جعله يستثقل كثيراً حديثَ مريضةٍ سألها عن أسباب مرضها، فأجابت: "أصبت به وأنا أشتغل في الوعد"، وحين استفهم أكثر، قالت إن الوعد هو ما كتبه الله لها من سقوط في الرذيلة، يعلق بقوله: "حاشا لله أن يرضى الفاحشة لأحد من خلقه"، ويعقب بأن العناية الإلهية تسدد طريق من ينادي ربه بحرارة وإيمان، ويترك له زمام أموره.
وهذه المعاني وغيرها مبثوثة بكثرة في مذكراته وفي أحاديثه إلى طلبته وحديثه عن نجاحاته التي لا يعزوها إلا إلى توفيق الله، والقارئ لهذه المقاطع لن يجد فرقاً بين ما يكتبه وهو المسيحي ديانةً، وما يمكن أن يكتبه مسلم ممتلئ إيماناً ونجاحاً.
ولا يصل إلى مستوى تعلُّقه بالله إلا القدر الرفيع من الالتزام الخُلقي الذي يحرص عليه أشد الحرص، فهو مثلاً يفرد باباً في مطلع كتابه بعنوان "مزالق الأخلاق"، يروي فيه بعض مظاهر هذا الالتزام وهي كثيرة، يتحدث مثلاً عن حياته في مدرسة الطب، وقد أتيح له ولزملائه -وهم في مقتبل الشباب- أن يختلطوا ببنات مدرسة التمريض رغم وجود الحجاب آنذاك، ويذكر كيف كان بعض الطلبة يحاول إنشاء علاقات مع بعضهن في غفلة عن المراقبين.
يذكر هذا بأسف كبير، ويذكر أن أغلبية زملائه كانوا مثله، يرفضون هذه السلوكيات ويتندرون شعراً ونثراً على فاعليها، ويشير إلى أن معظم من ارتضى لنفسه هذه المسلكيات أخفق في التعليم والتفوق. ويقول إن التزامه بنصائح والدته هو ما حماه من هذا الانزلاق إلى هذا الطريق الذي تسميه والدته بالمعوج.
قد يبدو الدكتور نجيب غارقاً في طبه إلى حد ظلم حياته الخاصة، ولكن هذا الانطباع سرعان ما يتبدد حين تعيد قراءة القليل الذي كتبه عن أسرته. من الواضح أن طفولته، رغم يتمه المبكر، كانت سعيدة، وأن عائلته كانت مهتمة بالثقافة، يدلل على ذلك ذكره للكتب التي قرأها وحفظ الكثير من أشعارها، ما انعكس في كتابته الجميلة وفي القليل من شعره وزجله الذي ذكره.
وحين يتحدث عن زوجته، فإنه يختصر لكنك تفهم علاقتهما المتينة، ودورها المهم في حياته، ودورها الاجتماعي الذي يفخر به، وفخره بعائلتها يجعله يكتب لك عن تاريخ العائلة وأدوارها منذ العصر المملوكي.
يكتب عن ابنه الذي فقده صغيراً كتابات متفرقة ولكنها شديدة الشجن، مشحونة بالعواطف، تكتب له إحدى بناته تبشره، في عاطفة وطنية، غامرة بتأميم القناة ورحيل المستعمر، تهدي هذا الخبر الجميل في خطاب بديع إلى روح أخيها، الذي يتبين لنا أنه كان أحد الأعضاء النشيطين في حزب مصر الفتاة.
ولذا، يورد الأب نعي أحمد حسين لابنه، ومن المعروف أن حزب مصر الفتاة كان حزباً متطرفاً في وطنيته، مما يدلني على أن نجيب محفوظ الدكتور كان حريصاً على وطنية أبنائه ومصريتهم، ولغة رسالة ابنته التي أوردها تدل على اعتنائه بتنشئة أبنائه على اللسان العربي السليم. وللأسف، أنت ترى اليوم كثيراً من الأطباء والنابهين تزهيداً لأبنائهم في الثقافة واللغة العربية والمشاعر الوطنية، ما لو حضره الدكتور محفوظ لكرهه.
وختاماً، أتمنى أن يقرأ هذه المذكرات كلُّ الأطباء الذين يضِيقون بقسوة العمل وصعوبته، وربما يصل أمرهم إلى أن يضيقوا بمرضاهم، وهو العيب كل العيب، ولا أملك لك -يا دكتور نجيب- أكثر من أن أحفظك أنت وذكرياتك في جزء أثير من عقلي وفؤادي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.