* هل تعلم يا محمد لماذا خلقنا؟
– لماذا؟!
* لنعبد الله، ألم تقرأ يوماً: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"؟
تعلّمت حينها أن الله هو المحور والأصل الذي ندور حوله، هو الهدف والغاية، هو السبب والنتيجة، وما نحن هنا إلا به وله، ومن أجل عبادته، وما خلقنا إلا لنعبده.
كان ذلك منذ 5 سنوات، عندما زرت صديقاً قديماً في بلدتنا، كان صديقي منذ أيام المدرسة الثانوية، وكنت في تلك الفترة في حاجة إلى شخص "يعرف الله" فيدلني إليه، كانت روحي قد فرغت، وكانت الحاجة مُلحّة إلى أن تنصب، وبالصدفة علمت من أحد الأصدقاء القدامى أيضاً أن فلاناً قد التحى والتزم ويلقي الدروس بالمسجد ويصلّي بالناس إماماً، فتواصلت معه واتفقنا على اللقاء كل أسبوع أو أسبوعين مرة، نقرأ فيها معاً في العقيدة والفقه والتوحيد، ويعلّمني مما يعلم، وفي أثناء حديثنا كنت أحدّثه كثيراً عن التعليم بحكم اهتمامي وعملي اللاحق في المجال، وكانت تلك الفترة تصادف مشاركة أحد الأحزاب في الانتخابات، وفي تلك الليلة الأخيرة للقائي به، كان يتفق مع بعض المدرسين في القرية لعمل مذكرات وملخصات مجانية للطلاب الفقراء، لن يأخدوا عليها مقابلاً وستكون خالصة لله ابتغاءً للأجر والثواب، بمساعدة وتعليم أبناء الفقراء في القرية، ولكن هناك أمر بسيط جداً، وهو أنه سيضع على هذه الملازم شعار الحزب، فأين الله الذي ندور حوله بأعمالنا مخلصين له؟
لم يكن لُبّ الأمر بالنسبة لي وما حدث بعد ذلك من تغيير بسبب ربط الفكرة التي طرحها صديقي القديم وبين موقفه البسيط والتلقائي في تلك الليلة، لقد تعلمت منه أشياء كثيرة في تلك الفترة لا أنكرها، وقد كنت مؤمناً بالفكرة التي لم تكن واضحة منذ نشأتي الأولى حول أننا خلقنا من أجل العبادة فقط، أو بمعنى أدق لم تكن قد ترسّخت واستقرت بداخلي مثل تلك الفترة، ولكن السبب في أنني لم أقابله بعد تلك الليلة كان لذلك المبدأ الذي رأيته ينهار ببساطة، كلوح ثلج تعرض للشمس في يوم صائف، فرأيته ينهار ويذوب ببساطة، لم يكن الأمر يحتاج إلى مزيد تفكير أو البحث عن تفسير لذلك الفعل منه، ولم أبغضه، ولن أفعل، وانقطعت فقط، لأنني وجدت نفسي لن أستطيع أن أقبل منه كلمة عن العمل والعيش من أجل الله ثانية، بعد أن أتى بأشخاص ليقدموا جهداً لله، ولا ينتمون إلى حزبه، ليقوم بالترويج لحزبه عن طريق جهدهم للفوز بأصوات لمرشحيه.
وبعد سنوات، قرأت في مقال لأحد الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي عن فكرة الغاية من الخلق بطريقة أخرى وغير مباشرة، خلصت منها إلى أن الإنسان مخلوق ليتعرّف إلى ذاته، ويخوض المعارك والتجارب من أجل فهمها والارتقاء بها في الزمان والمكان اللذين يعيش فيهما، وتلتها عدة قراءات ومقالات حول نفس الفكرة، أنني هنا من أجل التعرّف على نفسي وفهم ذاتي والارتقاء بها، وبأن ذاتي هي محوري وأصلي الذي أدور حوله، ولم تكن الفكرة مستقرة أيضاً في بدايتها مثل الفكرة الأولى، غير أنها مع الوقت تبلورت واستقرت بداخلي إلى حد كبير.
ولعل أكثر ما دعاني إلى قبول الفكرة الثانية، والبحث فيها، ثم تبنّيها هو ذلك الموقف الذي ظل عالقاً برأسي، وكنت أنكره وأزعم أنه لم يكن له تأثير كما ادعيت ذلك في بداية مقالي، غير أنه كان له أثر كبير في التخلّي عن الفكرة الأولى وقبول الفكرة الثانية، ربما كانت تلك سذاجة، برغم دعوتي الدائمة لجميع من حولي أن يفرّقوا بين الأشخاص والأفكار، ولكن هنا نقطتان هامّتان: الأولى أنه يجب أن يكون المرء صادقاً مع نفسه، وإلا فما فائدة الأفكار وطرحها والدعوة إليها؟ والثانية أن الموقف الأول لم يكن هناك فارق فاصل بين موقف الشخص النابع عن إيمانه وأفكاره وبين إيمانه وأفكاره.
تمرّ الأيام، وتطير وتمضي ثم تقف، وتدور وتبدأ، وتُبدِّل وتُري وتغيِّر، وتؤلم وتُعلِّم، ولكن لا تزال كل فكرة تصارع أختها في رأسي، حتى وقت قريب وقد استمعت وقرأت محاضرات ومقالات تتمحور حول ما لا يسع المسلم جهله، وأن كلتا الفكرتين صحيحة ومكملة وداعمة للأخرى، فنحن هنا على هذه الأرض لنعرف الله ونصل إليه، ونعرف أنفسنا ونرتقي بها أيضاً، وما بين تمحور المرء حول ذاته وعكوفه عليها ومنح نفسه الفرصة لرؤية نفسه وتأملها والتقرب منها، ومحاولة فهمها والغوص في أعماقها لمحاولة استكشاف السراديب الخفية التي تحوي بداخلها عوالم وحقائق، للبحث عن الداء الذي لم يشعر به المرء واستكشاف الدواء الذي لم يبصره، وبين التمحور حول الإله والتفكر فيه وفي خلقه وحكمته وتمنّي ملاقاته للتعرف عليه وسؤاله عن الدقائق والحقائق والأسرار ورؤية الصورة الكاملة التي أرادها ورسمها ببلايين التفاصيل في الأكوان والأزمان.
وقد أدركت أنه عليَّ الآن أن أترك الفروع وأركز في الأصول التي لم تعد ثابتة، ولم تكن ثابتة منذ البداية، فلم أزرعها بنفسي ليكون أصلها ثابتاً وتطال فروعها السماء، وتنمو وتثمر سكينة في القلب واطمئناناً أثناء السير في دروب الحياة وتقلباتها، ولكنه جذر غرس في طبقة رقيقة من سطح الأرض أورثته عائلة لطفلها تلقائياً، فلم تكن شجرة ثابتة، تستطيع الرياح الخفيفة أن تثني ساقها كلما سمحت لنفسها بفتح نوافذ هذا العالم المفعم بالرياح والعواصف، ولكن على أمل أن تحمل في ثناياها نسائم تبعث الحياة في قلب أرهقته الأسئلة.
منذ أيام من كتابة هذا المقال كنت في اتصال مع صديقة هولندية كانت تتدرب معنا في الشركة لبعض المهارات التقنية، وهي تدرس الآن الإنجيل والتوراة والقرآن في إطار بحث جامعي كُلفت به من جامعتها، فطرحت سؤالاً عجبت لنفسي لماذا لم أطرحه على نفسي قبل ذلك حول معاني الحروف المُقطّعة في أوائل بعض السور في القرآن الكريم؟ واضطرني سؤالها للبحث والقراءة فيه، ووجدت بالفعل عدة تفسيرات، بعضها ضعيف وبعضها قريب من المنطق نوعاً ما، والأسئلة لا تنتهي، والأسئلة فطرة إنسانية توقفت بفعل السير مع الترس الدائر.
وفي أثناء الحديث حول الإله جاءت جملة ذات معنى "لا أريد أن يشير لي أحد إلى هناك فيقول هذا هو الإله، ولكن أريد أن أعرفه بنفسي".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.