أمشي في شوارع مدينة أكتوبر الواسعة الخالية من المارة، نسمات الهواء العليلة تحمل إلى مسامعي نغمات جميلة وبسيطة لا أعرف مصدرها، وإن كانت تقترب باستمرار، ومع هذا الاقتراب ميّزت فيها صوت الربابة، عرفت أنني أقترب من مصدر الموسيقى؛ لأن صوتها أخذ يرتفع وتتبين لي تفاصيله الجميلة، بعد برهة تبين مصدر هذا الصوت، شاب في منتصف عقده الرابع، أسمر اللون، يرتدي الجلباب البلدي الفضفاض، يحمل على كتفه قفصاً من الجريد به نماذج مصغرة من آلة الربابة، يمسك منها واحدة في يده، ويمسك في اليد الأخرى قوس الربابة، يعزف به عليها بتركيز مخلوط بالمتعة، كانت نغماته الحزينة تدخل القلب ببساطة، وكأنه يشكو غربته في كل تفصيلة فيها، كان ينادي على أمّه وأهله والمكان البعيد الذي جاء منه، كل هذا كان يصدر من هذه الآلة الصغيرة.
عندما اقتربنا من بعض في الطريق، توقف عن العزف فجأة، وكأنه أُحرج من اندماجه في العزف، فمن الواضح أنه قد استغل خواء الطريق ليجهر بعزفه الرائع، كما يستغل الإنسان الخجول خواء الطريق ليدندن مع نفسه لحناً يحبه، ولكي يبدد هذا الإحراج، نادى بصوت مرتفع على سلعته "الربااااابة"، فلما حازيته نظرت له ابتسمت وقلت: أنت فنان والله. لا تتصوروا مدى الفرحة التي شاهدتها في وجهه، لقد نظر إليَّ بامتنان كبير، وكأنني أعطيته جائزة كبيرة، وقال لي بالنص: "شكراً ربنا يجبر بخاطر حضرتك".
وكانت هديتي الأنغام التي ودَّعني بها إلى نهاية الشارع، والتي كانت أبرع وأفضل وأبهج من التي سمعتها في أول الطريق.
هذا الموقف أفرحني جداً وحسّن من حالتي المزاجية لدرجة كبيرة، وجعلني أفكر في سبب سعادة الرجل من كلمة قُلتها، على الرغم من أنني لم أساعده بأي نقود، كل ما في الأمر أنني ابتسمت في وجهه وقلت له كلمة، أيكون فرح من ابتسامتي وكلمتي؟! يبدو أن هذا ما حدث، فالكلمة الطيبة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم إنها صدقة، والبسمة التي قال فيها إن "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، هما سبب تلك البهجة التي دخلت على بائع الربابة.
الكلمة والبسمة التي كثيراً ما منعنا تكبرنا وعدم فهمنا لمشاعر الناس عن منحهم، حتى لمن نساعدهم ونقدم لهم الصدقات، الكثير منا يدفع من ماله للفقراء، ولكن يمنع أو بالأحرى يبخل بالبسمة في وجه المحتاج، وإسماعه طيب الكلام، معظمنا يتخلص من الصدقات، وكأنه يلقي بعبء يثقل كاهله، دون أن يفكر في التواصل مع مستحق الصدقة؛ ليشعره بأنه وإن كان يأخذ الصدقة إلا أنه جزء مهم من المجتمع، الأمر الذي يطيب نفسه ويرفع رأسه، ويمنع شعوره بالدونية التي تولّد الحقد في مرحلة أخرى، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن البسمة والكلمة الطيبة، لو أدركنا أنها جوانب مهمة في بناء أي مجتمع، يثاب من يتخذها شعاراً في حياته، لغيّرت من وجه المجتمع، فبالإضافة لزميلك في العمل وجارك في السكن، والأثر الطيب الذي ستحدثه الكلمة الطيبة والبسمة الرقيقة في علاقاتك داخل المجتمع، فإن العامل البسيط، والبائع المتجول سيحترم عمله لو أحس بالتقدير من خلال هذه الوسائل البسيطة، الكلمة الطيبة والبسمة.
فهذا الشاب المهمَّش ذو الحس الفني الفطري، أحسّ بالتقدير، أحسّ أنه يملك ما يقدمه للناس بعيداً عن الحسابات المادية الجامدة التي لن تكون في صالحه أبداً، عندما ابتسمتُ في وجهه، وقلت له: أنت فنان، فكم من فنان ومبدع يتجول في مجتمعنا، وينتظر كلمتك وبسمتك ليتخذ منهما قاعدة يبني عليها ثقته بفنه وإبداعه!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.