من العادات الطيبة في المسلمين هنا في ماليزيا إطعام الطعام، وهي بعض خصال المؤمنين، وفي أحد الأيام دُعِيتُ وزملائي المعلمون إلى غرفة المعلمات لتناول طعام أَعَدَّته إحدى المعلمات للجميع.
وأثناء تناول الطعام تبادلنا أطراف الحديث، وكان من بين المعلمات ثلاث منهن حوامل فقلتُ لهنَّ: أَكْثِرْنَ من تلاوة القرآن فإن له أثراً بالغاً في الجنين وهو في رَحِمِ أُمِّهِ، وقد عَايَنْتُ قَصَصاً لأمهات كُنَّ يحرصن على تلاوة القرآن والمداومة على استماعه فنشأ أبناؤهن حَفَظَةً لكتاب الله، ونصحتهن بأكل التمر، ويكثرن منه بعد الولادة، فهو غذاء ناجِعٌ لهن ولأبنائهن الرضع، وذكرتُ لهنَّ نِدَاءَ الْمَلَكِ للسيدة مريم -عليها السلام- بعد ولادتها عيسى -عليه السلام- قال الله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)} (سورة مريم)، وقلتُ لهنَّ لقد قرأتُّ بحثاً علمياً أثبتَ أن التمر له فوائد عظيمة للمرضعات والأطفال الرُّضَّع.
وأثناء الحديث إذا بأحد الزملاء يسأل إحدى المعلمات الحوامل التي يبدو أنها على وشك الولادة، سألها: ماذا تحملين ذكراً أم أنثى؟ بماذا أخبرك الطبيب؟
فَوَجَمَتْ الزميلةُ، ورأيتُ تغيراً في وجهها وحَرَجاً شديداً، وهَمَّتْ أن تُجِيبَه، فَأَدْرَكْتُها وقلتُ لها لا تُجِيبي، لا تُخْبِرينا بذلك، فلا يعلم ذلك إلا الله، وَوَجَّهْتُ كلامي للزميل السائل وقلتُ له: ليس من حقك أن تسأل هذا السؤال، ولا من حق غيرك، فلا تَسَلْ عن ذلك.
وإذا بالزميلة قد تَهَلَّلَ وَجْهُهَا، وكأني أَزَحْتُ عن صدرها صَخْرَةً ثَقِيلَةً، وقالت: نعم لا تَسْأَلْ، لا تَسْأَلْ، لا تَسْأَلْ.
إنه الفضول أحد أمراض النفس الإنسانية.
إنه الفضول الذي يدفع المرء أن يسأل عن أشياء لا تخُصُّه، ولا تُعْنِيه.
إنه الفضول الذي يدفع المرء إلى أن يقول ويتكلم فيما لا يخُصُّه، ولا يُعْنِيه، ولا طائل منه.
إنه الفضول الذي يدفع المرء إلى أن يفعل أشياء ليس له أن يفعلها؛ إذ إنها ليست من شأنه، ولا تُعْنِيه، ولا تنفعه، ولا تنفع غيره، فقد تكون سَفَاسِفَ وتَوَافِهَ أقل ضَرَرِها أنها ضياع للوقت، والانشغال بما لا معنى له، ولا طائل منه.
روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ".
هذا الحديث جعله الإمام النووي -رحمه الله- ضمن الأربعين النووية لأهميته، وهو من جوامع الكلم النبوي.
ومعنى الحديث: أن مِنْ كمال إيمان المؤمن ومن محاسن الإيمان ألا يشغل المؤمن نفسه بما لا يهمه من شواغل الدنيا قولاً كان أو فعلاً.
وصدق القائل: مَنْ سأل عما لا يعْنِيه سمع ما لا يُرْضِيه.
وقد أجمل الأستاذ عبد العال الرشيدي عِدَّةَ فوائد جليلة لهذا الحديث في سبع نقاط أعجبتني، ها هي:
1- ينبغي للإنسان أن يدع ما لا يعنيه؛ لأن ذلك أحفظ لوقته، وأسلم لدينه.
2- ترك اللغو والفضول دليل على كمال إسلام المرء.
3- الحث على استثمار الوقت بما يعود على العبد بالنفع.
4- البُعد عن سفاسف الأمور ومرذولها.
5- التدخل فيما لا يعني يؤدي إلى الشقاق بين الناس.
6- الحديث أصل عظيم للكمال الخلقي، وزينة للإنسان بين ذويه وأقرانه.
7- وفي الحديث حثٌّ على الاشتغال فيما يعني المرءَ من شؤون دِينه ودنياه، فإذا كان مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فمِن حُسنه إذاً اشتغالُه فيما يعنيه.
ولا تَعَارُضَ بين هذا الحديث وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تَعَارُض، وإنما يتوجه الحديث إلى الفضول الذي يؤذي الآخرين سواء كان قولاً أو عملاً، ويتوجه إلى سَفَاسِف وتَوَافِهِ الأمر التي تضيع الأوقات ولا فائدة منها ولا طائل، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه الفريضة التي لا تسقط عن أحد من المسلمين قَوِيِّهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، خواصهم وعَوَامِّهم.
إنها الفريضة الغائبة التي تركها المسلمون، فسقطت الأمة فيما هي فيه الآن من قهر وذل، واستعباد وهوان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.