الملاريا.. زائرة المتنبي

ومن المفارقات المدهشة التي تتعلق بالكينين تلك الصدفة التي قادت الكيميائي الإنكليزي (ويليام هنري بيركن) عام ١٨٥٦ إلى اكتشاف طريقة اصطناعية لتركيب اللون الأرجواني الذي كانت مسألة الحصول عليه من ضروب الخيال، وذلك بطريق الخطأ وهو يحضر الكينين؛ حيث كان اللون الأرجواني قاصراً على الطبقة الأرستقراطية، وكان مصدر الحصول عليه من الرخويات البحرية المسماة موركس، وبالتالي فقد كان ثمن الصبغة يعادل وزنها ذهباً!

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/29 الساعة 04:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/29 الساعة 04:59 بتوقيت غرينتش

تعتبر الملاريا من الأمراض شديدة القدم، عُرفت بأعراضها وإن لم تتخذ مسمّاها الحالي إلا حديثا، وهي مرض طفيلي معدٍ وخطير يصاب به الإنسان دون غيره من الكائنات الحية.

وتسببه كائنات طفيلية تسمى المتصورات (أو بلازموديوم)، ينتقل عن طريق لدغات بعوض (الأنوفيلة أو الأنوفيليس) الناقل لها، وتسمى نواقل الملاريا التي تلدغ بين الغسق والفجر.

وهناك خمسة أنواع من المتصوّرات تسبّب الملاريا البشرية، والأشد تهديداً، من بينها نوعان هما: المتصوّرة المنجلية (الأكثر انتشاراً في القارة الإفريقية، وهي مسؤولة عن معظم وفيات الملاريا على الصعيد العالمي)، والمتصوّرة النشيطة (السائدة في معظم البلدان خارج إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى).

ولأن الطفيليات كائنات تتطفل على الإنسان في سبيل إتمام دورة حياتها، فإن هذه المتصورات تتسلل داخل كريات الدم الحمراء في جسم الإنسان فتدمرها، ويترافق ذلك مع مجموعة من الأعراض أهمّها الحمى، وتضخم الطحال وفقر الدم، ومع ذلك فالأمر المدهش أن أحد العوامل التي تقلل فرص الإصابة بالملاريا هي فقر الدم المنجلي ذاته!

ويُعزى السبب في ذلك إلى أنه في هذا المرض تصبح خلايا الدم الحمراء منجلية الشكل، مما يجعلها غير قادرة على نقل الأكسجين بشكل جيد، وكذلك أقل قدرةً على العبور ضمن الشعيرات الدموية، فيتمزق جدارها وتتحلل بينما طفيل البلازموديوم يحتاج إلى كريات دم حمراء سليمة؛ ليُتم دورته، وبوجود فقر الدم المنجلي لا يستطيع أن يتم دورة حياته.

كان اكتشاف الطفيلي مسبب مرض الملاريا في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1880 في المستشفى العسكري بقسنطينة (الجزائر) بواسطة طبيب في الجيش الفرنسي يدعى (ألفونس لافيران)، الذي حاز بعد ذلك جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لعام 1907 عن اكتشافه هذا.

أما عن أعراض الملاريا فتمر بثلاث مراحل مميزة:
المرحلة الأولى أو الباردة: وفيها يعاني المريض من الشعور بالبرد والرجفان.
المرحلة الثانية أو المرحلة الحارة: وفيها يعاني المريض من الحمّى والصداع والقيء.
المرحلة الثالثة أو مرحلة العرق: وفيها يتعرق المريض فتعود درجة حرارته إلى الطبيعي ويستمر الشعور بالتعب.

هذا وتعتبر الملاريا مرض موسمي يبلغ ذروته أثناء موسم الأمطار، وبعده مباشرة، كما أنها أكثر شيوعاً في المناطق المدارية وفي الأشخاص الذين يعانون من ضعف جهاز المناعة، أو يعيشون في محيط غير صحي، وهي من الأمراض الخطيرة التي إن لم تعالج فقد تودي بحياة الإنسان.

لذا فلا غرو أن نجد غالبية حالات الوفاة من الملاريا في الأطفال؛ لأن جهازهم المناعي لم يكتمل، والحوامل لأن جهاز المناعة لديهن يكون مثبطاً أثناء حملهن، ولا سيما لو كان الحمل للمرة الأولى؛ لذلك توصي منظمة الصحة العالمية -التي خصصت يوم ٢٥ أبريل/نيسان من كل عام يوماً لتسليط الضوء على الملاريا- بتوفير العلاج الوقائي من مادة السلفاديوكسين – بيريميثامين للحوامل اللائي يعشن في المناطق التي تشتد فيها وتيرة الملاريا، وذلك في الشهرين الثاني والثالث من الحمل.

كما توصي بإعطاء ثلاث جرعات من ذلك العلاج للرضّع الذين يعيشون في المناطق الإفريقية التي يشتد فيها المرض.

وفي عام 2012، وضعت المنظمة استراتيجية إضافية للوقاية لمكافحة هذا المرض في مناطق شبه إقليم الساحل الإفريقي بإعطاء مقرّرات شهرية من الأمودياكين زائد السلفاديوكسين – بيريميثامين لجميع الأطفال دون سن الخامسة خلال موسم اشتداد المرض.

في الدول التي يكون معدل المرض فيها مرتفعاً، يكونون عرضةً للإصابة بعدوى الطفيلي مرات عديدة، وبالتالي فبوسع جهاز المناعة التعامل مع الطفيلي، حيث إن الجسم قد قام بإنتاج أجسام مضادة لهذا الطفيلي من المرات السابقة، وتستمر هذه المقاومة فعالة لسنوات، وتنتهي إن لم يكن هناك تعرض مستمر؛ لذلك فالملاريا أكثر خطورة على السياح الوافدين إلى هذه البلدان ممن لم يتعرضوا أبداً للطفيلي.

عرف المصريون القدماء الملاريا ويظهر هذا جلياً في تسبيه بوفاة الفرعون توت عنخ آمون ابن إخناتون في سن مبكرة لم يتجاوز الـ19 سنة في 1324 قبل الميلاد، بحسب دراسة أميركية شهيرة، كما أن ثمة دلائل على أن الإجراءات الاحترازية لمواجهة الملاريا كانت معروفة إلى حد ما، فـ(سنفرو) مؤسس الأسرة الرابعة، الذي حكم في الفترة 2613 – 2589 قبل الميلاد، استخدم الناموسية كحماية من البعوض.. كما لم تغِب الملاريا عن العصور الإسلامية.

ومن الطريف في هذا السياق أن نسوق ترجيحاً لبعض الكتاب من أن الحمى التي أصابت السيدة عائشة -رضي الله عنها- زوج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ومزقت شعرها كما ذكرت هي في بعض أحاديثها أنها حمى البرداء أو الملاريا؛ حيث كانت فاشية بأعراضها المعروفة بين أهل المدينة في أيام الهجرة، ولو صحت رواية ابن السني عن عائشة -رضي الله عنها- من أنها أسقطت من النبي -صلى الله عليه وسلم- سِقْطاً، ولم يثبت فربما كانت الحمى سبباً في ذلك.

كما كانت حمى الملاريا زائرة لشاعرنا أبي الطيب المتنبي الذي قال عنها:
وزائرتي كأن بها حياء ** فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ** فعافتها وباتت في عظامي

والظاهر أن علاقة الملاريا بالشعر والشعراء لم تتوقف عند ذلك، فلقد كان للورد بايرون الشاعر الإنكليزي الشهير صاحب مقولة: (غالباً ما تتحول الصداقة إلى حب، ولكن يستحيل أن ينزل الحب إلى درجة الصداقة) موعد مع النهاية بحمّى الملاريا.

كان اعتقاد القدماء في الماضي أن الملاريا ينقلها هواء المستنقعات؛ لهذا كان الإنكليز يطلقون عليها حمّى المستنقعات (بالإنكليزية: swamp fever)، أما العرب القدامى فعرفوها باسم البرداء؛ لأنها تسبب الرعشة الشديدة.

أما الاسم الحالي (ملاريا) فمشتق من الكلمة اللاتينية Malus Aria ومن الكلمة الإيطالية Mala Aria أي "الهواء الفاسد"؛ حيث كان الرومان القدامى يتصورون أن مبعث هذا المرض هو الأبخرة الفظيعة الصادرة من المستنقعات، وبالتالي فكلمة "ملاريا" لها جذور في نظرية ميازما وهي النظرية السابقة على جرثومية الأمراض.

ثمة علاجات منزلية لمكافحة الملاريا، مثل عصير الليمون ببطء مع ارتفاع درجة الحرارة، وعصير الجريب فورت لاحتوائه على مادة شبيهة بالكينين، وكذلك القرفة وأوراق الريحان والعشبة الهندية الداتورة والزنجبيل وبذور الحلبة، التي تعزز الجهاز المناعي فضلاً عن ضرورة الأخذ في الاعتبار الإجراءات الوقائية اللازمة، ومنها ارتداء ملابس ذات أكمام طويلة، وتغطية الساقين في الأماكن التي تنتشر فيها الحشرات، واستخدام الكريمات الطاردة لها.

ووضع شَبَك ضيق الفتحات على الأبواب والنوافذ لمنع دخول الحشرات واستخدام الناموسيات في حال النوم خارج المنزل، وردم البرك والتخلص من أماكن وجود وتوالد البعوض، كما تشير بعض الدراسات إلى انزعاج البعوض الناقل للملاريا من رائحة الدجاج، مما يدفعه للذهاب بعيداً كما يمكن استخدام سمك البلطي في المياه الراكدة للتغذي على يرقات البعوض، وتجنب السفر إلى أماكن تفشّي الملاريا قدر الإمكان.

وفي حال ضرورة السفر إلى المناطق الموبوءة بالملاريا يجب الحرص على أخذ الجرعة الوقائية المقررة بأسبوع أو أسبوعين قبل السفر، وخلال فترة البقاء في تلك المناطق، ولمدة أربعة أسابيع بعد العودة.

يشتمل علاج الملاريا على الكلوروكوين (الذي يسبب سقوط الشعر وزيادة الحساسية لأشعة الشمس، إلا أن دراسات حديثة تشير إلى قدرته على كبح جماح سرطان الكبد)، والكوينين أو الكوينيدين.

ومن المفارقات المدهشة التي تتعلق بالكينين تلك الصدفة التي قادت الكيميائي الإنكليزي (ويليام هنري بيركن) عام ١٨٥٦ إلى اكتشاف طريقة اصطناعية لتركيب اللون الأرجواني الذي كانت مسألة الحصول عليه من ضروب الخيال، وذلك بطريق الخطأ وهو يحضر الكينين؛ حيث كان اللون الأرجواني قاصراً على الطبقة الأرستقراطية، وكان مصدر الحصول عليه من الرخويات البحرية المسماة موركس، وبالتالي فقد كان ثمن الصبغة يعادل وزنها ذهباً!

وليس هناك ما هو أدل على ندرة الحصول على هذا اللون من الأسطورة اليونانية التي تحيط باكتشافه فتروى إحدى الأساطير اليونانية أن حورية سورية تدعى (تيروس) وقع في حبها هرقل، وذات يوم بينما كانت تتجول على الشاطئ، ومعها كلبها، فإذا بها ترى لوناً أحمر غريباً هو لون الأرجوان على فم كلبها بعد أن تناول الأرجوان من صدفة كانت على الشاطئ، فطلبت من هرقل أن يصنع لها ثوباً بلون الأرجوان الذي شاهدته، فجمع هرقل لون الأرجوان من الأصداف، وصنع ثوباً جميلاً وقدمه لحبيبته الأثيرة لقلبه!

من العلاجات الأخرىي أتوفاكون- بروغوانيل والهيدروكسي كلوروكوين وميفلوكوين وكذلك الأرتيميسينين Artemisinin. والذي استطاعت الباحثة الصينية (تو يويو) أن تستخلصه من نبات الشيح الحلو، واسمه العلمي (Artemisia annua)، وهي نبتة معروفة ومنتشرة في الصين، وقد وجدت مذكورة في مخطوطات تعود للقرن الثاني قبل الميلاد، وتستخدم عادة علاجاً للحمى المتقطِّعة التي ترافق الإصابة بمرض الملاريا؛ لتفوز هذه الباحثة بجائزة نوبل عام 2015، لتصبح أول امرأة صينية تفوز بالجائزة.

وما زالت الأبحاث تجرى على الأرتيميسينين كعلاج مبشر في حالات السرطان، وبسبب مقاومة الطفيلي يمكن إضافة الدوكسيسايكلين أو الكليندامايسين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد