تبدأ الحكاية في باص دمشق – حرستا – دوما، وهو باص أوّل خطّه في دمشق ونهايته في مدينتي دوما، حين يسألُ العسكري على الحاجز عن هويات الجميع، ثمَّ يختار أحداً، وينزله… ويأمر شوفير الباص بالرحيل بالباقي، فإن اختارك أنتَ فإنّك ستبدأ سلسلة من الانكسارات أوّلها صفعةُ يمينه الحاقدة على وجهك، ومروراً بتعذيبٍ واغتصابٍ وشبحٍ وسلبٍ للكرامة، وآخرها عاهات دائمة أو موت من تعذيبٍ أو مرض!
وأمّا إنْ نجوتَ، فإنّك ستُقهَرُ إذا كانت المختارة هي فتاة في ربيعها، فإن شاورَ لها بإصبعه، ونَبَستَ أنتَ ببنتِ شفة، فإنَّ مصيرها أن تنزل من الباص حكماً ونصيبكَ أنتَ أن تنزل قبلها وتعيش عذاباً أليماً ثمناً لغيرتكَ على بناتِ بلدك، وهنا ستنكسِرُ يا صاحبي أيما انكسار، فمهما استُبيحَ جسدك وروحك فهو أهون عليك من أن تُستباحَ أجساد العذارى تحت ناظريك.
وإن وَصَل بك الباصُ بعد طول الرحلة من الجميلة دمشق، مدينة السُّجونِ والمجون، إلى الجريحة دوما، مدينة الشهداء، فإنَّك ستبقى فيها خوفاً مِن أن يُعادَ مشهدُ الباص على الحاجز مرّة أخرى، وعندها ستمشي خائفاً تترصَّد مداهمةً أو حاجزاً طياراً، ثمَّ إذا تحرّرت المدينة من أرتال النظام، انكسَرتَ مع كلِّ قذيفةٍ سقطت على أخٍ أو صديقٍ أو قريب، هذا إن كنتَ ناجياً منها ولم تكسركَ واقعاً ومجازاً، ثمّ هناكَ ستحاصر يا ولدي، مع أهلك، مع أولادك الذين يفتحون أفواهَهم للهواء كل يوم، ستنكسرُ مع رؤية طوابير الأطفال على كباسات المياه للحصول على مياهٍ للاستخدام ليست حتّى صالحةً للشرب، وستنكسرُ مع رؤية الطابور نفسه على توزيع المساعدات الشحّة التي تتاجرُ بها المنظمات الإنسانية إعلاميّاً فتسلبَ كرامة هؤلاء المنتظرين تحتَ مطر القذائف التي لا تُبقي ولا تَذَر، ستنكسرُ عندما تمرُّ بجمعيات الصحّة، وسيتشظّى قلبك مع سماع قصص الأرامل واليتامى في الجمعيات الخيرية، ستنكسرُ معها إنسانيّتك وسيجِدُ الحزن واليأسُ آلاف الطرق إلى قلبك.
ستنكسرُ يا صاحبي مع أصوات رصاصات القناصة تتصيَّدُ المارّة صباح مساء، ولستُ أدري هل الانكسارُ هو وصفٌ صحيح في حضرة اغتصابِ بناتك في مداهمة الجيش لحيِّك؟ أو أنَّه وصفٌ لشعورك حينما ترى طفلاً قد قُتِل والبلطَة لا تزالُ عالقةً في رأسه؟
هي آلافُ الانكسارات التي تصيبُ شعباً بأكمله منذ سبع سنوات وإلى اليوم، هي تلك الانكسارات التي غلَت في العروق وفجّرت براكين الغضب أكثر وأكثر.
هي تلك الانكسارات التي لا يتصوّرها آدمي، وإذا خُيِّلت له فإنّه بلا شك سيذهب إلى آخر الطريق تطرُّفاً في الانتقام.
طوبى لِمَن لم تنطفئ نيرانُ الثأر في دمه، طوبى لمن ركِبَ الدَّرب فلا بدّل ولا غيَّر، بل عاهد يوماً بأن يقتصّ من الطغاة، كل الطغاة، كل القتلة والمغتصبين، كل السجانين والمعذِّبين، مهما تعددت انتماءاتهم ووجوههم، بقي هناك كالزيتون متجذِّراً في الأرض يطلب ثأره ودمه على كفّه، مهما خذله قادةٌ ودولٌ صديقة وقريبة، مهما تآمروا عليه، بقيَ ليأخذ ثأر كلِّ انكسارٍ وكلِّ قهرٍ أصابَ قلوبنا، فيا طوبى له ويا لَشقائنا نحن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.