أن يقودك العمى إلى جائزة نوبل!

الفرق واضح وشاسع بين الأعمال التي تنساها بمجرد وصولك إلى نقطة نهايتها، والأعمال التي تشعر بأن ما بعدها مختلف تماما عما قبلها، وأعتقد بأن رواية الأسبوع تنتمي للصنف الثاني... كتابنا لهذا الأسبوع إذن هو رواية العمى، للأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو، صدرت لأول مرة عام 1995، وكانت سببا رئيسيا في حصول صاحبها على جائزة نوبل للآداب عام 1998.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/28 الساعة 06:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/28 الساعة 06:58 بتوقيت غرينتش

"هذه هي الطينة التي جبلنا منها، نصفها خبث، ونصفها استهتار.."

اسمه جوزيه ساراماغو، ولد عام 1922 في قرية صغيرة تبعد حوالي المئة كيلومتر عن العاصمة لشبونة، ورغم نبوغه في الدراسة إلا أن الفقر والظروف الاجتماعية الخانقة أجبرته على الانتقال إلى مدرسة مهنية وهو في الثانية عشرة من عمره، وذلك لعجز أهله عند دفع تكاليف دراسته.

عمل جوزيه كصانع للأقفال، وميكانيكي سيارات، قبل أن يقوده شغفه الحقيقي إلى ميدان الصحافة والترجمة، التي كانت سببا رئيسيا في إعالته ماديا ومساعدته على التفرغ لشغفه الأعظم.

الكتابة..

ألف جوزيه الكثير من الروايات، لكنها لم تنل الشهرة المستحقة، إذ لم يعرف اسم ساراماغو عالميا إلا بعد بلوغه الستين! كما أن آراءه السياسية لم تكن تحظى بقبول رسمي في بلده البرتغال، ما تسبب له في عدة مشاكل، كان أبرزها ما واكب صدور روايته الإنجيل يرويه المسيح، التي أثارت حفيظة بعض الطوائف الكاثوليكية المتشددة، ما دفع حكومة البرتغال المُحافظة، بقيادة رئيس الوزراء آنذاك كافاكو سيلفا، إلى التدخل وعدم السماح لساراماغو بالمنافسة على جائزة Aristeion Prize، فقرر جوزيه الرحيل رفقة زوجته والعيش في جزيرة لانزاروت الإسبانية، ثم بدأ في كتابة عمله الأشهر والأبرز. موضوع حديثنا لهذا الأسبوع:

العمى..

الفرق واضح وشاسع بين الأعمال التي تنساها بمجرد وصولك إلى نقطة نهايتها، والأعمال التي تشعر بأن ما بعدها مختلف تماما عما قبلها، وأعتقد بأن رواية الأسبوع تنتمي للصنف الثاني… كتابنا لهذا الأسبوع إذن هو رواية العمى، للأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو، صدرت لأول مرة عام 1995، وكانت سببا رئيسيا في حصول صاحبها على جائزة نوبل للآداب عام 1998.

مدينة مجهولة الاسم، يتفشى فيها وباء غريب يصيب معظم سكانها بالعمى، ما يسرع من انهيار النظام الاجتماعي، بعدما حاولت السلطات التدخل لاحتواء الوضع (الإمساك بالعميان والزج بهم في السجون التي امتلأت شيئا فشيئا)، فساهمت بسياستها الحمقاء في استفحال الأمور بشكل مأساوي، عندما تخلى الجيش عن المحتاجين وأفسح المجال للعصابات حتى تعيث فسادا في المدينة وتستولي على مخزون الأغذية والدواء، ما يدفع الناس إلى الاقتتال فيما بينهم.

تصور الرواية معاناة الناس مع الوباء الذي اختفى فجأة كما ظهر فجأة، وتمكن بعض أبطال العمل (الطبيب وزوجته وآخرين) من الصمود رغم الانهيار الذي ضرب كل ما يحيط بهم، ومدى تغير وانهيار النظم الاجتماعية أمام غريزة البقاء.

تنتمي هذه الرواية إلى ما يمكن اعتباره أدبا رمزيا، فنحن هنا أمام رواية عميقة ومليئة بالرموز والدلالات، فالبشر الذين يعيرون الحيوانات بالوحشية يتبارون في إظهار أحط بشاعاتهم وشرورهم تجاه بعضهم البعض، عندما تمسك الغريزة بزمام مقاليد الإنسان ويغيب العقل عن الواجهة، والإسقاط هنا واضح على أننا أيضا عميان، وإن لم يكن العمى الحسي كما في الرواية، بل العمى الفكري والأخلاقي، أو كما لخصته زوجة الطبيب بقولها:

"لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون".

ولا يمكن لهذا المشهد إلا أن يذكرنا بالآية الكريمة:

"وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" صدق الله العظيم.

أعتقد بأن ساراماغو قد أصر على إشراك القارئ أيضا في عمى مدينته المنكوبة، فلا وجود لأسماء شخصيات، لا نعرف للمدينة المعنية اسما، الجمل طويلة جدا وبلا نقط، باستثناء الفواصل، نفس الشيء بالنسبة لغياب علامات الاقتباس الدالة على وجود حوارات وسط المتن، كما أن السرد مسترسل بلا تقسيمات فصول أو أجزاء.

هي باختصار شديد رواية رائعة، لم تبالغ بعض التصنيفات عندما أدرجتها في قائمة أفضل 100 رواية في التاريخ، ولو كانت مواقع تقييم الكتب تمكننا من منح بعض الأعمال 100 نجمة، لفعلت ذلك بالتأكيد مع رواية "العمى"، كيف لا، وقد دفعتني (كما معظم القراء الذين حالفهم الحظ بمطالعة هذه الرواية) إلى محاولة "الإبصار" من جديد!

أما فيما يخص ساراماغو نفسه، فقد بقي في جزيرة لانزاروت حتى مات عام 2010، وبقي مصرا على آرائه السياسية وإن لم تكن تعجب الكثيرين، وكان أشهرها ما قاله بعد زيارته لرام الله والضفة الغربية عام 2002 بعد الدمار الذي لحق بها إثر مواجهات مخيم جنين وكنيسة المهد في بيت لحم:

"ما يحدث في فلسطين هو جريمة من نفس طراز ما حدث في معسكر أوشفيتز، الإحساس بالحصانة يحيط بالشعب الإسرائيلي وجيوشه. لقد تحولوا إلى أشخاص منتفعين من الهولوكوست (المحرقة)."

ولا داعي للإشارة هنا إلى أن هذا التصريح قد جر على ساراماغو نفس الاتهام التقليدي السخيف بمعاداة السامية!

– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد