كتبت يوماً عن المادة الخام للشعب المصري وأظن أن أحد أصدقائي صححني وقال: "تقصد معدنهم؟"، فقلت "نعم". ما تعرضت يوماً لأهل بلدي بالطعن في معدنهم، ولكن كنت -وما زلت- أبحث عن كيف تغيير المعدن النقي الثقيل الثمين إلى معدن مليء بالشوائب خفيف الوزن رخيص الثمن. ولأني أبحث عن بُعد، فأزعم أن بحثي أدق من غيري داخل الوطن؛ ذلك لتأثرهم بمتغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية، ويستنشقون الهواء الملوث بغير إرادتهم. فالنظر من بُعد يعطيك نظرة شمولية وتفاصيل يفقدها كثيرون من أهلنا نتيجة تعودهم إياها ومشاركتهم في صنعها.
دعوني أشارككم معرفتي عن مجتمع تسمعون عنه من خلال الإعلام المحلي وقد لا تنصفونه بقصد أو بغير قصد، ولكن ليست هذه غايتي. المجتمع الأميركي يكون ويصنع معدنه بطريقة ابتكارية مذهلة. فما زالت هجرة الناس من أنحاء الدنيا إلى أميركا لا تنقطع، وما زلت عقول علماء الاجتماع في حركة دؤوبة لتوجيه هذا الانصهار بين مكونات الشعب؛ لتكوين سبيكة جديدة ربما تكون أكثر صلابة من غيرها من شعوب عاشت على أرض واحدة وتزاوجت وأنشأت حضارات لآلاف السنين. كيف يكون هذا خلال 200 عام عمر الولايات المتحدة؟
الذي ألاحظه هنا أن قضية الانتماء تبدأ من إمضاء عقد الحقوق والوجبات، فبمجرد أن تحصل على الجنسية الأميركية تحصل معها على حق التصويت واختيار ممثليك في الكونغرس واختيار رئيسك. ولك قبل ذلك حق العمل والتعليم والعلاج والعبادة والاعتراض والتظاهر، وغيرها من الحقوق المدنية التي يكفلها الدستور الأميركي لمواطني الدولة.
أما الذين وُلدوا على هذه الأرض من الجيل الثاني وما يعقبه، فهؤلاء أميركيون يكتسبون ثقافة الأرض من نعومة أظافرهم، فهم أهل هذا البلد وأصحابه من البداية. ربما تكون هذه من البديهيات النظرية، ولكن عندما يفقدها الناس واحدة تلو الأخرى، تكتشف وقتها أن الناس أضاعوا حقوقهم بأنفسهم.
صحيح عندنا بأميركا تدليس إعلامي وتفاوت كبير أحياناً بالتوجة السياسي، ولكن المساس بمكونات السبيكة الجديدة خط لا يمكن تجاوزه. أقول هذا؛ لأصل إلى غايتي من هذه الرسالة: المجتمع الأميركي لا يقبل بحالٍ وصم مواطنيه بالإرهاب من داخلهم أو من خارجهم، اللهم إلا التوجه العنصري الذي تقوده أفكار مجموعات معينة. أما عموم الناس فجلهم يهتم بالمجتمع ككل. فالمحافظة على تماسك مكونات هذه السبيكة يلزمها الفخر بالانتماء والدفاع عن حقوق أقل مواطن أميركي الجنسية، الوقائع الاستثناءية تكاد تُعد على أصابع اليد الواحدة.
هذا يصل بنا لعقد مقارنة مذهلة بين شعب لا يزيد عمره على 600 عام منذ اكتشاف أميركا عام 1492م وشعب يزيد عمره على 8 آلاف سنة. والمفارقة هنا، أنه في وقت يخترع الأميركيون سبيكة مجتمعية جديدة يتفنن المصريون في تفكيك نسيجهم المجتمعي وتشويه معدنهم الأصيل بشوائب غريبة لم تكن موجودة من قبل.
وأغلبنا يلقى باللائمة على الإعلام والفاسدين والمنتفعين، ولكنني ما زلت أقول إن الشعب الذي يقبل بقتل وسجن وسحل وتهجير أبنائه وبيد أبنائه أيضاً ثم يخوّن بعضه بعضاً ويحتقر غنيُّه فقيره، لهو شعب يفسد معدنه مع سبق الإصرار والترصد. ولن يبقى في هذا الشعب بقية يفتخر بها بعد أن رخص معدنه.
وأخيراً، أقول: إذا رأيتم أو سمعتم أو شاهدتم من يسبُّ هذا الفصيل ويخوّن آخرين ويصنّف الناس بين "نحن وهم"، فاعلم أن هذه هي الشوائب بغض النظر عمن قالها فلا تنجرّوا وراءهم وخذوا على يد الظالم منهم دون أن تطعنوا فيه، وحاكموه دون أن تصنفوه، فكل هذا لا يفيد إلا بإفساد المعدن وتشويه مكوناته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.