دائماً ما تنتهي أفكار منتصف الليل بالأفكار التي تبقيك مستيقظاً النصف الآخر، كنت بالمطبخ أقوم بغسل الصحون، أخيراً بعد صراع طويل مع نفسي الأمارة بالسوء، عادة ما أضع سماعات الهاتف في أذني وأنا أقوم بتلك المهمة، حينها صادفت فيديو لأحد الدعاة الشباب على الفيسبوك وهو يتحدث بطريقة "مودرن"، وبها الحس "الروش" عن الحجاب، في محاولات منه لإقناع الفتيات بفرضية الحجاب، من خلال أجوبة تبدو في نظره، منطقية استفزني الفيديو كثيراً.
حيث شعرت أن هذا الأسلوب في إقناع الناس بفروض الإسلام الواضحة غير القابلة للنقاش، مثل الحجاب والصلاة والصوم، من خلال محاكاة علم المنطق، وكيف ثَبت أن تلك الفروض تفيد الإنسان؛ لهذا أمرنا الله بها، هو نفس الطريق الذي يؤدي بالشباب لاحقاً إلى الإلحاد بها.
لماذا طريق المنطق الذي يسلكه هؤلاء الدعاة يؤدي بالناس للإلحاد؟ الإجابة هنا أن هذا الطريق بعيد كل البعد عن فكرة الإيمان الأصلية في الإسلام.
وما هو الإيمان؟ الإيمان في الإسلام يكمن في أركان الإيمان، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْماً بَارِزاً لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الإِيمَانُ؟، قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ.
إذا ما نظرنا بشكل عميق لأركان الإيمان سنجد أن النواة تكمن في الإيمان الغيبي البحتي، نحن مطالبون لكي نصل إلى قمة الإيمان بأن نؤمن بالله وملائكته ورسله الذين لم نرَهم، نؤمن بالكتاب وهو القرآن الذي لم نرَه يكتب ولا نعرف القدر خيره أو شره.
فالذي يحاول الآن الدعاة فعله هو إيجاد أجوبة منطقية للفروض، للأوامر، للإيمان وهذا ما يتعارض مع فكرة الإيمان نفسها بالفعل!
لا توجد إجابة منطقية وافية شافية يمكنها أن تقوم بإقناع الناس بفروض أمرها الله في هذا الزمن إلا عبر طريق أن الله أمرك بذلك وهذا يكفي!
المجتمعات بتغييرها السريع الآن والمتواصل، وبسبب ما يحدث حولنا الآن من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ضخمة، يمكنها أن تجعل فكرة ارتداء الحجاب الآن بالمنطق، فكرة مؤذية أكثر للفتاة من مدى نفعها، وهذا ما يجعلها تكفر بالفكرة الأولى التي صدرت لها أنها "تبدو أجمل بالحجاب"، أو أنها هكذا ستلقى احترام الجميع، أو أنها هكذا لن تتعرض للتحرش.
فعندما يحدث ذلك، تصاب الفتاة بالصدمة الشديدة التي تطرق باب المنطق، فتقوم بخلع حجابها، وهكذا.
أو على سبيل المثال، من الملاحظ أن أغلب من اتسموا بتمسكهم القوي بالدين وبالفروض، حالياً يعانون من اضطرابات شديدة في دينهم بسبب ما تعرضوا له من صدمات نفسية كبيرة، بسبب الأحداث السياسية المؤسفة؛ حيث وجدوا أن من المنطق أن لا يحدث كل هذا!
وإن حدثته بمنطق أن هناك عبرة أو عظة فيما يحدث له من ظلم، فهذا يجعله يعاني أكثر ويسأل أكثر عن مدى صحة أن هذا يحدث بالفعل لسبب ما؛ لأن تلك الأسئلة تصطدم بطريق المنطق مرة أخرى، بطريقة "انظر إلى أثر الله في الأرض ورحمته"، فإذا ما نظر، ووجد حروباً حوله، وظلماً، وفقراً.. فيجد أنه لا منطق في طريق المنطق!
هذا هو الأساس الذي يحاول معظم الدعاة الآن تصديره إلى الناس، بأن كل الأوامر يمكنها أن تصبح منطقية، متناسياً أن نواة الإيمان وهو الغيبي البحت، أن الإنسان يجب أن يؤمن دون أن يدرك أولاً هل هناك حكمة في ذلك أم لا!
إن هذا لا يتعارض أبداً مع فكرة أننا من حقنا أن نتساءل أو أن نحاول أن نفهم لماذا يحدث هذا؟ ولماذا نرتدي الحجاب لكي يزيد تمسكنا بالدين؟ ولكن لا يجب أن يكون هذا هو الطريق الأول والوحيد، بل يجب أن ندرك قبل كل شيء أننا مهما حاولنا لن ندرك ماذا ولماذا وأين؟
فلا نصبح كالذين يبحثون عن المنطق في الفروض والأوامر فيصبحون يعبدون المنطق وليس الله، وإذا ما عبدنا المنطق فكأنما نعبد أنفسنا؛ لأننا من نصنع المنطق، ولا بأس بعد التسليم والطاعة للآمر والناهي، أن نبحث عن المنطق، ولكن الأصل الرضا والقبول والخضوع التام لأمر الله ونهيه، هذا ما سيجعل الإنسان أقل عرضة للاهتزاز في أساسه الديني مع أول زلة في طريقه إن اعتمد على هذا المبدأ.
عن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.