في عالم القواعد الكسرة أقوى من الضمة، لكن في عالم العواطف الأمر مختلف تماماً، فالضمّة أقوى الحركات وأحنّها، بل أعظم وأشمل من كل الكلمات.
الضمة أو العناق، لغة عالمية لا تحتاج إلى مترجم، وهذا ما أثبته د. هيرتنستاين عندما أجرى دراسة عن قدرة المرء على إيصال مشاعر معينة منها الغضب والحزن والخوف والحب من خلال اللمس فقط، حيث عزل المشاركين بستارة سوداء والطريقة الوحيدة للتواصل كانت من خلال مد الذراعين واللمس، ولدهشته كانت نسبة نجاح الأفراد في التعرف على المشاعر تفوق فرصة كونها صدفة وتصل إلى 78% في بعض الحالات.
وهذا يشير إلى أن البشر قادرون على فهم مشاعر الآخرين دون تدريب أو تعلم؛ لأن اللمس حاجة إنسانية ولغة فطرية يتقنها جميع الأشخاص على اختلاف مذاهبهم وثقافاتهم.
وبما أن اللمسة البشرية هي أول لغة يتحدثها الطفل عندما يولد، وهي أول حاسة يبدأ الرضيع باستخدامها حتى قبل أن يفتح عينيه وتكتمل قدرته على الرؤية والتمييز، فهي تلعب دوراً هاماً في تطوره النفسي والعقلي وصحته على المدى الطويل، ويحتاج الطفل في سنواته الأولى إلى الكثير من التواصل الجسدي الحاني، ويلعب هذا التواصل دوراً في بناء الترابط النفسي ويقوي العلاقة بين الأهل والطفل ويبني الثقة ويُشعر الطفل بالتقبل والأمان.
وقد بدأت الأبحاث الطبية تشجع وتحث أهالي الأطفال المولودين قبل أوانهم على ملامسة الطفل وحضنه إن أمكن؛ لما لذلك من أثر إيجابي على صحته ونموه.
ويرى خبراء علم النفس أن الرُضّع في الملاجئ لا يحصلون على حاجتهم من اللمسة الإنسانية والعناق، وبالتالي تزيد نسبة الموت المفاجئ للرضع، وقد تصل إلى 30%، كما تزيد نسب حالات العنف وضعف التحصيل الدراسي.
ويرجع ذلك -حسب الدراسات- إلى انعدام الترابط النفسي بين المربّي والطفل، وبالتالي إحساسه بالعزلة والرفض.
ولا يمكن الحديث عن العناق دون التوقف عند أثره الأكثر وضوحاً لنا، وكيف تكون ضمة قادرة على تحسين المزاج وتخفيف الألم، مما دفع البعض لرفع شعار "ضمة في اليوم تبقي الطبيب بعيداً".
وقد دعمت عدة دراسات هذا الشعار ومنها دراسة تم إجراؤها في عام 2015 وشملت 404 أشخاص، تم تعريضهم لفيروس الرشح/ الإنفلونزا لأغراض الدراسة، وقد أظهرت أن الأشخاص المحاطين بأحبة أو عائلات تعانقهم وتقدم لهم الدعم كانوا أقل عرضة للإصابة بالمرض، وحتى إن ظهرت عليهم أعراض الرشح كانت هذه الأعراض أخف من عند نظرائهم الذين لم يحصلوا على العناق والدعم من قبل أحبتهم.
ولعل الدور الذي يلعبه العناق متعلق بقدرته على تحفيز إفراز هرمون "أوكسيتوسن" oxytocin وخفض إفراز هرمون التوتر "الكورتيزول"، وبالتالي يصبح الأشخاص بمزاج أحسن وصحة وأفضل.
ولا يقتصر اللمس وأثره الإيجابي على علاقة الأصدقاء أو الأزواج أو الأهل مع أبنائهم، بل يتعداه ليشمل مندوبي المبيعات والمدرسين وحتى العاملين في المنشآت الطبية واللاعبين الرياضيين.
فقدت أشار دانيل كلتنر بروفيسور علم النفس في جامعة كاليفورنيا إلى أن لمس المرفق أو التربيت على الكتف يُشعر الطرف الآخر بالراحة ويساعد على بناء الثقة، وبالتالي يُشجع الزبون على إتمام عملية البيع.
كما أن لمس المعلم للطالب كالتربيت على كتفه أو رأسه بطريقة حانية تزيد من فرص مشاركته في الصف بثلاثة أضعاف، وتجعله أكثر مثابرة واجتهاداً.
أما في عالم الرياضة، ورغم تصورنا أنه عالم مادي مبني على التنافس والجهد العضلي، فإن دراسة تابعت فرق كرة السلة العالمية ومدى قيام اللاعبين بلمس بعضهم البعض خلصت إلا أن الفرق التي يتلامس لاعبوها أكثر هي أكثر نجاحاً وفوزاً من الفرق الأخرى؛ لأن اللمس يعزز الدعم النفسي والتشجيع الإيجابي والتعاون، وقد لاحظت الدراسة أن اللاعبين الأمهر أكثر لمساً وتشجيعاً لأفراد فريقهم.
كونوا أكثر تشجيعاً لأفراد فريقكم، لعائلتكم الصغيرة والكبيرة، لأطفالكم، لا تحولوا الحب والفطرة الإنسانية التي نحاول كثيراً تكميمها إلى رسائل رقمية ونظريات عبثية.
لا أحد يكبر على الحب، اكسروا هذه النمطية البالية، وحين تمر من جانب طفلك على عَجَل، توقف قليلاً وعانقه، اربت على كتفه وابتسم.
عانق زوجتك، والديك، امنح الآخرين قليلاً من الحنان، ففي هذا العالم ما يكفيه من القسوة والجفاف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.