منذ نعومة أظافري وأنا أتطلع لهذه الّلحظة، لحظة الانتقال من قيود الطفولة إلى حرّية الشّباب، من أصفاد المدرسة وأغلالها إلى انطلاقة الجامعة وانفتاحها، من ذاك الجسد النّحيل الهزيل إلى الجسد القوي عظيم البنيان، من طيش المراهقة وجنونها إلى حكمة الرّشد ورزانته، من شتات أفكاري وشخصيّتي إلى تحقيق الذّات، من الاتّكال على الآخرين إلى السّير وحيداً في مسيرتي.
وها قد أتت الّلحظة المنشودة، أسير وحيداً فلا أجد سوى مسؤوليّة كالأمواج العاتية أصارعها فأطفو أحياناً وتغمرني المياه أحياناً أخرى، ربّما وجدت العقل الرّاجح، لكنّني ما زلت أبحث عن العضلات المفتولة واللحية الكثيفة والحياة الجامعية المتفتحة المشرقة، أبحث عن مظاهر التّحول التي رسمتها في مخيّلتي، ربّما ارتقيت بسقف طموحاتي قليلاً -بل كثيراً- لكنّني ما زلت أؤمن أنّها لحظة تستحق كلّ هذا الانتظار لما تحمله من تغيّرات تقلب الحياة رأساً على عقب لأبدأ حقبةً جديدةً في حياتي، وكأنّها تمنحني ورقة بيضاء أترجم فيها ما كتب في مسوّداتي طيلة الأعوام الماضية.
حياتنا ما هي إلا شريط من الذكريات تربطه المشاعر والأحاسيس، وما يجعلها مفعمة بالنّشاط والحيوية والحماس هو التّغيير، فهو الذي يحرك مياه الحياة الراكدة ويكسبها الطّاقة الّلازمة للإبداع والابتكار، هكذا كان دور عامي الثامن عشر في إزالة أعفان الرّتابة التي تسلّلت إلى حياتي؛ ليخلق طوفان من التجديد، تجديدٌ في كلّ نواحي الحياة، مجتمع وبيئة وأنظمة مختلفة تماماً عمّا نشأت فيها، لكنّني وجدت الطمأنينة والسكينة هنا في أحضان وطني، تركت كنف أسرتي البسيطة صاحبة الفضل الأوّل بعد الله -عز وجلّ- في بنائي وتكوين شخصيّتي وفكري ودعمي نفسيّاً ومعنويّاً، تركت كنفها في الإمارات الجميلة الّتي أفتخر وأسعد بطفولتي فيها، لأعيش في كنف مِصر الغالية أصارع الحياة وحيداً، ربّما لا تكون الدّولة المثالية، لكنّها وبلا شكٍّ وطنٌ مثاليٌّ أجد فيه الدّفء والحنان.
يعقب هذا الطّوفان سيول من المشاعر، مشاعر ألم لفقدان أجواء الطّفولة المدلّلة التي تُطوى صفحاتها لتخزّن في أرشيف الذكريات، وفقدان المكان الذي ترعرعت على ترابه موفّراً لي كلّ فرص الإبداع والتّميّز لأكون جزءاً من حداثة العصر وتقدّمه، ومشاعر اندفاع للاطلاع على المستقبل والحياة الجديدة بكل ما تحمله من صعوبات وتحدّيات، من مسرّات ومضرّات، ومشاعر راحةٍ وسعادةٍ؛ كوني أخيراً في الوطن أتفاعل مع أحداثه، وما يدور فيه مفاخراً بشموخه ورفعته، ومشاعر فخر لما قدّمته لنفسي من تجارب وخبرات خلال الأعوام المنصرمة، وما قدّمته في هذا العام تحديداً.
وبعد كل هذه التحولات الجذرية والتقلبات العاطفية، تهديني طفولتي أشياء كثيرة أهمّها التّخصص الّذي أحلم به ليكون آخر ما تقدمه لي، وتذكرة العبور لآفاق جديدة وطموحات جديدة، ها أنا ذا أدرس الطّب الذي بت أحلم به طيلة غفواتي خلال الحصص الدراسية المملة، أدرسه بكل استمتاع وحبّ لأتأمّل جمال ودقّة وروعة وإبداع الخالق فيما خلق، سعيدٌ جداً وفخورٌ بكل لحظةٍ أمضيتها في تحقيق طموحاتي، وحزينٌ نادمٌ لما ضاع من عمري فيما لا أطيق ولا أحب ممّا فرض عليّ.
وصلت أخيراً إلى محطتي الأولى خلال رحلة رائعة من التّجارب والخبرات رغم ما يشوبها من شوائب، قطعت فيها بضعة أميال من مشوار الألف ميل، استوقفني فيها الكثير، منها ما أعاقني ومنها ما كان حافزاً ودافعاً لمواصلة التقدّم، ومن موقفي هذا أتطلع إلى المحطة التالية لأحتفل باليوبيل الفضّي وتخرّجي في كلية الطّب؛ لأجد لنفسي تخصصاً طبياً يلائم تفكيري وتطلّعاتي؛ لأبدأ بداية أخرى تلهمني لبناء عالم أفضل ممّا ترعرعت فيه.
مع تحيّاتي..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.