عندما بلغ ابني الأول السنة الأولى من عمره، وكنت عندها في بداية عمر الاغتراب وحيث كنت أقضي وقتي كاملًا معه، أقسمه ما بين لعب وقراءة ورسم والخروج للتمشي، فلم أفكر قط في موضوع الحضانة لأنني ببساطة لم أكن بحاجة إليها في ذلك الوقت، إضافة إلى كم المعلومات التي ينشرها بعض الناس من أبناء الجالية العربية عن أن الروضات الألمانية مكان لغسل أدمغة الأطفال الأجانب حتى يصبحوا ألمانًا، و لم يكن لدي في ذلك الوقت الخبرة الكافية حتى أتحقق من هذه المعلومات لأنني كنت أظن أنهم في خضم عمرهم الطويل في بلاد الاغتراب فهم بلا شك أخبر مني، وأيقنت لاحقًا إن البحث والتجربة هما أصل الخبرة.
الطفل بحاجة إلى أطفال
كان كم العناية الذي وفرته لابني الأول الذي كان حقل تجاربي الوحيد في ذلك الوقت غير مُرْضٍ عندما كنت أقارنه مع أقرانه من أبناء جيراننا الألمان وخصوصًا في ملعب الأطفال، كنت أجده خجولًا، شديد التعلق بي وإن كلمه أحد يختفي خلفي وكذلك قلة مرونته ولينوته في اللعب وصعوبة مشاركة ألعابه مع الأطفال الآخرين.
عندما كنت أسأل معارفي كانوا يجيبونني: بأنه طفل صغير وغدًا سيكبر، ويتعلم كل شيء؟ وأما جارتي الألمانية العجوز قالت لي: لأنه وحيد ولا يختلط بأطفال آخرين؛ فهو لا يعرف هنا إلا أمه وأبوه، وهذا يشكل حاجزًا بينه وبين العالم الخارجي، فالطفل بحاجة إلى أطفال.
داخليًّا كنت في صراع الأمومة الذي يقول إنني قادرة على تحقيق كل شيء لطفلي دون الحاجة إلى عوامل خارجية، ولكن حس الأمومة كان يقول لي: لا بد من وجود بدائل توفر لطفلي مهاراتٍ ما قد تكون غائبة عني، وهي ما تسمى النشاط الحركي الناعم Fine motor skills، وعندما فكرت بالحضانة كان شرط دخول الطفل فيها هو عمل الأم.
تربويات مجموعة الأقزام
قادني البحث إلى مجموعة أطفال صغيرة توفرها إحدى الجمعيات الأهلية للسيدات تسمى بمجموعة الأقزام، حيث تضم المجموعة عشرة أطفال تتراوح أعمارهم بين سنة إلى ثلاث سنوات ومدة الدوام ثلاث ساعات، لثلاثة أيام في الأسبوع ثلاثة، فاستثارتني الفكرة، وسُمح لي أن أحضر ابني وأمضي يوما كاملًا في هذه المجموعة وأرى ماذا يفعل الأطفال؟
المربية المسؤولة كانت متخصصة في علم نفس وتربية أطفال، متقاعدة وتقوم بهذا العمل تطوعًا، وما أدهشني هو كم الحب والخبرة الذي توزعه على الأطفال بطريقة ذكية بارعة، وعندما رفض ابني أن تأخذه في حضنها وأخذ بالبكاء، تركته على راحته حتى يتعود، وقالت لي: هذا تصرف طبيعي جدًّا. جلس يراقب نشاط الأطفال والمربية تحاول بين الفترة والأخرى استثارة انتباهه من خلال أن تغني له أغاني طفولية، تغنيها له وتتعمد أن تذكر فيها اسمه أو من خلال حديث ارتجالي من دمية قطنية تطالبه بحب أن ينضم إلى مجموعة الأطفال.
أعجبني النظام الذي يتعلمه الأطفال بطريقة تربوية مسلية حيث يجلس الأطفال على كراسي الأقزام، يغنون ويصفقون ويستخدمون جميع حواسهم في الحركة والتباين في محاكاة حركة المربية واضحة حسب أقدمية الأطفال، وكذلك في تعامل الأطفال مع بعض وكيفية التفاهم دون إتقان اللغة، وقالت لي المربية: إن الأطفال أذكياء بالتفاعل مع بعضهم دون الكلام، فبينما المربية تتكلم مع ابني الألمانية كان يهز رأسه مع إننا لا نكلمه إلا باللغة العربية.
نجحت المربية أخيرًا في استقطاب ابني من خلال وقت الرسم، وكان الرسم باستخدام ألوان اليد؛ حيث قفز الأطفال فرحًا، وهي تحضر المواد، وأخذوا يلبسون ملابس الرسم، وبدؤوا يرسمون بحرية وهنا بدأ ابني باستخدام المحاكاة ويطبق ما يفعله الأطفال بسعادة، ولاحظت حركة يده المرتابة، ولكن حجم السعادة الذي ارتسمت على وجهه كانت كافية لتقول لي: إنه سعيد في هذا المكان.
كانت طريقة انضمام ابني إلى هذه المجموعة تتبع نظام التعود الذي يتبعه الألمان في انفصال الطفل عن أمه بالتدريج؛ فلا يُؤخذ الطفل عَنوة وهو يبكي، بل على الأم أن تتدرج في غيابها عن الطفل، كأن يبدأ أول يوم ساعة؛ فتتركه الأم خلالها نصف ساعة، وهكذا لمدة أسبوعين حتي يعتاد الطفل غياب الأم، وحتى لا يوضع الطفل في ضغط نفسي نتيجة غياب أمه.
التزم ابني بهذه المجموعة سنة ونصف، وهنا لا بد لي أن أذكر حجم الخبرة الذي تعلمها ابني من وجوده فيها؛ حيث لم أكن قادرة على إضافتها له عل الرغم من مواكبتي لكل كتب تربية الأطفال، فابني اجتماعيًّا أصبح شخصًا متفاعلًا، لا يملأ الدنيا صراخًا إن غبت عن نظره دقائق، وأصبح ينشغل بعض الوقت لوحده بألعابه أو الرسم حيث أصبح بإمكاني مزاولة أعمال المنزل وهوايات أخرى، وتطور نشاطه في ملعب الأطفال، وازدادت ثقته بنفسه خصوصًا عند صعود الزحليقة أو الأرجوحة، وهذا التطور في طفولته خلال سنواته الأولى كان مثيرًا جدًّا لي.
استقبال ابني الأول للمولود الجديد
وجود ابني الأول في مجموعة الأقزام كان عاملًا مهمًّا في استقباله للفرد الجديد الذي سيقتحم مملكته الخاصة ويشاركه حياته، مع الإشارات التي كنت قد تعلمتها من هنا وهناك لإشعار ابني بقرب قدوم ذلك الضيف بيد أن المربية قامت بمقدمات رائعة وذلك من خلال مسرح الدمى، وتمثيل إنه لن يبقى وحيدًا بعد اليوم، وسيشاركه شخص آخر البيت والغرفة وحضن ماما، وكانت حريصة على تهيئته نفسيًّا لاستقبال الوافد الجديد عن طريق الرسم والأعمال اليدوية، وتحضيرها في صندوق مكتوب عليه اسم المولود الجديد الذي سيهديه لأخيه عندما يأتي إلى الحياة.
من الجدير بالذكر إن هذه العملية التربوية بحذافيرها الممنهجة لم تكن لتخطر على بالي، بل كان أغلب من حولي يقولون لي: (يا ويل الطفل القادم الجديد من أخيه المدلل) لكن كان الاستقبال مختلفًا ورائعًا.
ما العوامل التي تدفع لوضع الطفل في حضانة؟
لا أنكر أن الأم هي المدرسة الأولى للطفل وأهميتها في نشأته وتطوره وقوة شخصيته، ولكن في نظري ليست كل أم مؤهلة لتكون كذلك، وربما المعلمون في المدارس الذين لهم نظرة تربوية ثاقبة يستطيعون تمييز تربية الأم الممنهجة من تربية الأم غير المبالية، فهناك الكثير من الأمهات اللواتي يرفضن مبدأ الحضانة والروضة، ولكن أطفالهن منذ نعومة أظافرهم يكونون في حضانة التلفاز، وخصوصًا بعض القنوات الإنشادية ذات الموسيقا والألوان الصاخبة التي تؤثر بالسوء على دماغ الطفل؛ فيظهر ذلك لاحقًا في سلوكياته.
وهناك أمهات يجدن أن أعمال المنزل التي لا تنتهي وملاحقة ذرات الغبار أهم بكثير من تربية أطفالهن وكم رأينا أطفالًا يتعلقون بملابس الأم وهم يبكون وهي تمسك فوطة تلمع زجاج النافذة وعلى كتفها الأيمن تلصق الهاتف بأذنها لساعات في محادثات هاتفية لا تنتهي وتنقد الأم الذي وضعت أطفالها في حضانة!
في دراسة تم تلخيصها في جريدة التليجراف البريطانية في شهر نوفمبر من عام ٢٠١٦ بعنوان – ( الباحثون يقولون: الأطفال أفضل حالًا في الحضانة من البقاء في البيت) وقد قامت بهذه الدراسة مؤسستان منفصلتان إحداهما بريطانية والأخرى ألمانية، في بحث نصت فرضيته على أن الأطفال يتلقون تعليمًا أفضل في مرحلة الحضانة، حيث تم توزيع استبانات على ٨٠٠ أمٍّ، لم يضعوا أطفالهن في حضانة، مقارنة مع أخريات وضعن أطفالهن بالحضانة وسجلوا الفروقات، ومن ضمن الأسئلة: هل يستطيع طفلك استخدام المقص؟ هل يستطيع أن يتكلم بطلاقة؟ هل يستطيع تركيب أشكال هندسية مختلفة؟ بالإضافة عن مقدرة أطفالهم على عمل أمور لها علاقة بالغناء والرسم والأعمال اليدوية.
نتيجة الدراسة أسفرت عن تفوق أطفال الحضانة، وذلك لأن بيئة الحضانة التحفيزية تزيد من قدرة الطفل على التفاعل في الأنشطة بسبب المحفزات والبيئة التنافسية بين الأطفال ولأن بعض الأنشطة ليس سهلًا على الأهالي نقلها لأطفالهم بطريقة تربوية؛ فطريقة التعليم تحتاج إلى مهارات خاصة.
وهنا لا نشجع أن يوضع الطفل في مرحلة مبكرة جدًّا في الحضانة؛ حيث إن الطفل يحتاج بشدة إلى الأم وطبيعة العلاقة المبنية على احتضان الطفل وإرضاعه الرضاعة الطبيعية تخلق تواصلًا عاطفيًّا مستقرًّا بين الطفل وأمه؛ لذلك يجد الباحثين أن الضغط النفسي الذي تم فحصه بقياس ارتفاع نسبة هرمون الكورتيزون إنه يزداد الضعف عند إبعاد الطفل عن أمه عند الأطفال من عمر صفر حتى الشهر العاشر، ووجد الباحثون أن أفضل عمر لدخول الحضانة يبدأ من عمر ١١ شهرًا حيث لا يتأثر الطفل بالضغط النفسي الشديد جراء ابتعاده عن الأم، ونشرت هذه الدراسة في جريدة الجارديان البريطانية تحت عنوان الإجهاد الخفي في سن الحضانة.
وبناء على كل ما سبق: إن حاجة الطفل لدخول حضانة تربوية تحافظ على طفولة الطفل وتنمي لديه قدرات إبداعية وتربوية تتحدد بعدة عوامل:
الحاجة الماسة للأم للعمل أو الدراسة.
عدم كفاءة الأم والأب في تربية وتنشئة طفلهما بالشكل الصحيح.
عدم توفر البيئة الأسرية المناسبة لنشأة طفل مستقر نفسيًّا.
ونهايةً أشدد إذا استدعت الحاجة لدخول الطفل الحضانة على أنه لا بد من دراسة الحضانة التي يجب أن تضم مربيات مؤهلات تربويًّا وأكاديميًّا لاحتضان الطفل.
– المراجع:
Hidden stress of the nursery age
Kids better off at nursery rather than staying at home with mum
Das richtige Alter für den Kindergarten
– تم نشر هذه التدوينة في موقع زدني
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.