للأسف الشديد تطبق أنظمتنا سياسة إلهاء الشعوب، وحصر اهتماماتها على ما يشغلها بحرفية كبيرة، فالفرد العربي اليوم همه الأول أن يتسلسل ويتدرج منذ السادسة من العمر في دراسته على أمل أن ينال مكانة مرموقة في مجتمعات هي نفسها لا مكانة لها بين الأمم، فصعوبة المعيشة وتفشي سرطان سوء الأخلاق في مجتمعاتنا جعل من الأولياء يسعون بكامل جهدهم في أن يقضي أولادهم جل فترة الطفولة والشباب في المدارس والأقسام، غير مبالين بالجانب النفسي أو الروحي لطفلهم، وكأن الدراسة عقد يمتد مثلاً لعشرين سنة، ستجد نفسك بعده مرتاحاً على بقية السنوات التي ستعيشها؛ لهذا تجد أن أكثر من نصف الأطفال ينسحبون من الخطوات الأولى للطريق، زد على ذلك تفاقم ظاهرة التسرب، إلى أن أصبحت مثل الآفات التي تهدد مجتمعاتنا كالمخدرات مثلاً، وهذا بسبب الصورة المرعبة التي رسمها المربون عن المسيرة الدراسية، وسوء العاقبة في حال التهاون والسهو عن الاجتهاد للحظة… في حين يتناسون أمراً مهماً يجب أن يعلموهم إياه قبل إلزامهم بالجلوس على ذلك الكرسي.
على المربين أن يدركوا أن أول خطأ جسيم ارتكبوه، وما زالوا يرتكبونه لليوم، هو تلقيننا تلك المثاليات التي لا تتضاءل نسبة وجودها في واقعنا فقط، بل هي منعدمة تماماً، أعذروني إن قلت لكم إنني أدركت بعد هذا العمر الذي يعتبر قصيراً جداً أنه لا وجود لمثل تلك المثاليات، بعد أن أدركت أن الواقع الذي نعيشه أقذر مما قرأنا عنه في كتب التربية والتعليم.
أما الأمر الثاني الذي لي عليه بعض التحفظات، فهو التدخل في قرارات الطفل منذ صباه، فبعض الأولياء، هداهم الله، بعد أن يجلسوك على ذلك الكرسي يحدد لك هدفك، كأن تدرس لتصير طبيباً، والتي أصبحت موضة في أيامنا، وإن كان لا الطب ولا الطبيب يحظى بمكانته اللازمة في مجتمعاتنا وربما حالة مستشفياتنا اليوم لأكبر دليل على ذلك.
والدي الكريمين وأساتذتي الأفاضل، أعذروني إن قلت لكم إن أكثر من 50٪ من استراتيجياتكم التي اعتمدتموها لنكون جيلاً صالحاً قد فشلت.
والسبب كالآتي، كان حرياً بكم أن تعلمونا أن الحياة مراحل، وأن استباق الأمور يحيد بنا عن الطريق؛ لأن لكل مرحلة خصوصياتها، فمرحلة الدعوة السرية في سيرة خير الأنام تختلف عن مرحلة الجهر بالدعوة، وهذه الأخيرة تختلف عن مرحلة ما بعد الهجرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يتجه للفتح بعد أن أسلم نفر قليل من أهله وأصحابه الذين كانوا ضعافاً، بل بعد أن وضع أسس الدولة واشتد عود الإسلام في المدينة واستوطن الإيمان قلوب الناس.
وهذا ما غفلتم عنه أنتم، كان الأولى أن تعلمونا كيف ندرك ذاتنا، وكيف نؤسس لإنسانيتنا، والأهم من كل هذا كيف لنا أن نخرج من جلبابكم.
لهذا أكرر دائماً أن المسؤولية التي تتبرأون منها وتلقون بها على عاتقنا في الأساس مسؤولية مشتركة؛ لأننا سرنا على الدرب ولم نصل، سهرنا الليالي ولم نسمُ للعلى، زرعنا ولم نحصد؛ لأنكم علمتمونا أن المعركة بالأساس معركة كفاءات ومقومات وإعمال للعقول، في حين أن حربنا لم تكن يوما لإثبات قدراتنا وذكائنا، بل حربنا كانت ولا تزال ضد المحسوبية والواسطة والفساد الذي نخر عظام الأمة، وضد رؤوس الأموال التي تكونت بعد استغلال هذه الشعوب الساذجة، فقضت على القيم والمبادئ بجرة قلم أسفل شيك على بياض.. لم أكتب كل هذا لا لألومكم ولا لأوزع المسؤوليات، ولكننا قد هرمنا ونحن في زهرة شبابنا من واقع ندرك حتماً أن الكتابة لن تغير منه شيئاً، بل هي ليست إلا تذكيراً بالجرح الذي نعانيه، فلا أشعار محمود درويش ولا أغاني مارسيل خليفة ولا لوحات ناجي العلي أعادت لنا الأقصى؛ لأن تجسيد المشكلة دون رد فعل واقعي ليس إلا تعميقاً لها وإلهاء الشعوب عن قضاياها المصيرية، كما قال أحد المسؤولين الشرفاء في يوم من الأيام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.