الخيبات لا تُهْدى

صوت ناقوس البيت تلاه صمت رهيب.. توقفت الحياة في ذاك المنزل حتّى ذاك الصغير، نزل من كرسيّه ليمسك بفستان أمّه "مادلين"، توجهّت إلى الباب، حاولت أن تمسح دموعها بكفيّها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/14 الساعة 07:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/14 الساعة 07:03 بتوقيت غرينتش

نساء الحيّ يرتعبن من قدومه، يراقبنه من وراء نوافذ مطبخهنّ إذا قدم على دراجتّه الهوائية حاملاً محفظته السوداء في مقدمّتها علامة القوات المسلحّة، لم يكن ساعياً للبريد، إلاّ أنّه مكلّف بترملّ زوجات رجال الجيْشِ.

شابّ عمره يتجاوز العشرين بقليل، طويل القامة وذو شعر أشقر كثيراً ما تعلق خصيلات شعره بجبهته بسبب العرق، عيناه الخضراوان على قدر ما تثيران شبق النساء لالتهامه إلاّ أنّهن يرتعبن من قدومه.

في نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2013 كان الجيش يتراجع أمام ضربات الثوّار المركزّة بالشمّال، وخسر قواعد على خطّ التمّاس، وضحايا جنود الجيش أخذوا بالارتفاع، النساء بالحيّ يعلمن بهول الحرب ويعلمن جيّداً أن المسؤول عن الحيّ كاذب بشأن أزواجهن الضبّاط، كشفن ذلك من عينينه، ذاك هو حدس الأنثى.

تراقب قدومه من وراء نافذة المطبخ وهو يبحث بتؤدة عن رقم المنزل، انقطعت عن إعداد الفطور لطفليها قبل ذهابهما للمدرسة، أخذت بالارتعاب وهو يقترب شيئاً فشيئاً من النهج الذّي تقطن فيه، كانت تشاهد جاراتها يراقبن مثلها تماماً ساعي البريد العسكري، قلبْها أخذ بالخفقان العالي وهي تسمع ابنها: أمّي.. أريد أن أفطر.

ابنتها وهي جالسة أمام طاولة الفطور وعيناها موجهتّان إليها، ابنتها "جيهان" تراقب ارتفاع صدر أمّها المتسارع، وارتعاش يدها اليسرى، وتركيزها المرعب من وراء النافذّة، بهدوء وضعت كأس الحليب خاصتّها، ونادت أخاها، أجلسته بقربها وأخذت بإفطاره مسترقة نظرها نحو أمّها،وإذ بالكأس تسقط من يده أمّها.

لقد توقفّ ساعي البريد العسكري أمام باب المنزل، تمنت آنذاك أن يحدث شيء ما، أن ينتقل منزلها إلى المنزل المقابل، أن تبتلعها الأرض على مواجهة الساعي على أن تتسلمّ منه رسالة نعي قيادة الجيش لزوجها.

توقفّ كلا الصغيرين عن الأكل، كانا يعلمان بحسهّما الطفولي أن شيئاً كبيراً يحدث صلب العائلة الصغيرة، متعلقّ بأبيهما، لم يفهما آنذاك لمَ يُقاتل أباهما، في سبيل ماذا؟ على أي مبدأ قد يقاتل؟ لماذا الحرب! هكذا قالت جيهان لأبيها قبل مغادرته على السيّارة العسكريّة، الفتاة ما زالت تذكر تلك القبلة وكأنّها الأخيرة، قبلة أحست أنّها العهد لأبيها بأنّه سيكون دوماً لها المرافق.

صوت ناقوس البيت تلاه صمت رهيب.. توقفت الحياة في ذاك المنزل حتّى ذاك الصغير، نزل من كرسيّه ليمسك بفستان أمّه "مادلين"، توجهّت إلى الباب، حاولت أن تمسح دموعها بكفيّها.

فتحت الباب وجدته أمامها باحثاً في محفظته عن شيء ما، التفتت إليه سيدّتي أرجوك أن يقع المنزل رقم 14؟ منذ النصف الساعة وأنا أبحث عنه لم أجده هنا! أين يقع أرجوك؟

انهالت عليه بالضرب وهي تبكي صائحة: لقد ارعبتني أيّها الغبّي لقد كدت أن تتركني أرملة وأنا لم أبلغ بعد الثامنة والعشرين، لقد كدت أن تترك طفلين لم يبلغا الرابعة أكبرهما يتيمي الأب.

ترك درّاجته معانقا إيّاها بشدّة، ضمّها نحوه مطوقّا إيّاها بيديه وهي تحاول الانفلات منه لتواصل هستيريا ضربه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد