ماذا تعرفُ عن الفلسفة الشرقية؟

لقد أدارَ العالم ظهره للشرق واتجه للغرب طيلة عصور، هذا التمركُز حول الذات الغربية كان عن قصدٍ أو عن غيرِ قصد، وتعتبرُ الفلسفة الشرقية من أبرز الفلسفات التي عرفها التاريخ، فرغم ظهورها قديماً، فإنها قد دخلت في جدالٍ كبير مع الفلسفة الغربية،

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/12 الساعة 03:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/12 الساعة 03:21 بتوقيت غرينتش

لقد أدارَ العالم ظهره للشرق واتجه للغرب طيلة عصور، هذا التمركُز حول الذات الغربية كان عن قصدٍ أو عن غيرِ قصد، وتعتبرُ الفلسفة الشرقية من أبرز الفلسفات التي عرفها التاريخ، فرغم ظهورها قديماً، فإنها قد دخلت في جدالٍ كبير مع الفلسفة الغربية، حيث انقسم مجموعة من الدارسين إلى تيارين؛ تيارٌ اعتبر أنَّ الفلسفة الشرقية سابقةٌ على الفلسفةِ الغربية وتيارٌ قال العكس.

وفي ظلِّ هذا الجدال، قد عرفت بلاد الصين فلسفةً جميلة وهي "الفلسفة التاوية". إذن، هل يمكن الحسم في هذه الجدلية التاريخية بين الفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية؟ وماذا تعرفُ عن الفلسفة التاوية؟ وما هي أبرزُ خصائصها؟

ظهرت الفلسفة الشرقية قديماً وكانت من بين أهمِّ الفلسفات التي عَرفها التاريخ الإنساني، إلاَّ أنَّها عرفت انتقادات كبيرة وسط مجموعة من الباحثين؛ إذْ اعتبروها فلسفةً لاهوتية؛ لأنَّها تعتمدُ على الجانِب الروحاني، وتهتمُّ بقضايا الإنسان. في حين أنَّ الفلسفة الغربية هي فلسفةُ الموت بامتياز، وتتأسس على العقل أو اللُّوغوس، وهي فلسفةٌ نظرية بكلِّ ما تحملُ الكلمة من معنى ودلالة.

هذا الاختلاف راجعٌ لسبب وحيد وهو التمركُز حول الذات الغربية؛ إذْ إنَّ هذا التمركز قد جعل الفلسفة الشرقية قابَ قوسينِ أو أدنى وهو نزعة استعلائية بكلِّ التفاصيل.

الفلسفةُ الشرقية هي فلسفةٌ عملية، وتعتبرُ الصين هي أصلُ الفلسفة الشرقية، ويتكون الفكر الصيني من ثلاثة مكونات أساسية: الكونفوشيوسية، البوذية، التاوية. وهذه الأخيرة (التاوية) هي التي سأتطرَّقُ لها وبإسهاب في الفقرات القادمة.

يُعدُّ الحكيم الصيني "لاوتسو" هو مؤسس الفكر الصيني وصاحب كتاب "التاو"، ويُعرِّفُ الحكمة بأنَّها هي طريقةُ العيش، فالحكماء الشرقيون لم ينتجوا الفلسفة؛ بل كانوا فلاسفة عمليين، والمقصود بالفلاسفة العمليين هو أنَّهم استطاعوا الجمع بين العلم والعمل أي الخبرة، فالحكمة يُعرفها الفيلسوف الألماني "هيغل"، بقوله: "إنَّ الحِكمة شيءٌ أسمى والحكيمُ أعلى شأناً من الفيلسوف". ويقول "كونفوشيوس" في هذا الإطار: الحكمةُ هي أن تعرفَ النَّاس والفضيلةُ هي أنْ تحبَّ النَّاس. ومن هذا المنظور نخلصُ إلى أنَّ الفلسفة الشرقية ترتكزُ بالأساس على الحكمة.

إنَّ الفلسفة الشرقية هي فلسفةٌ جميلة في بُعديها الكونفوشيوسي والتاوي، وهذه الأخيرة يقصدُ بها الطريق أو السبيل، وتتميزُ التاوية بنوعٍ من الجدل؛ إذْ نجدُ أنَّ التاوية تتجسدُ في دائرة (اليانغ – الين). "لاوتسو" أعطى تعريفاً بالِغ الأهميَّة للتاو؛ إذْ عرَّفهُ بالطريق الذي يؤدي للحركة.

من بين أبرز مميزات التاوية هي "الدائرة" التي نجدها أينما حللنا وارتحلنا في المحلات التجارية، فضلاً عن غزوِها الكبير للموضة. هذه الدائرة تحملُ في ثناياها نوعاً من الجدل ونوعاً من التكامل، حيث تتكون هذه الدائرة من قطبين "اليَانْغ" ويمثلُ الذكورة، المُوجب، النُّور، الخير…، ثم "الين" التي تمثلُ السالب، الأنوثة، الظلام، الشر.

دائرة التاو تقوم على نوعٍ من التناوب، وبين "اليانغ" الذي يكون باللَّون الأبيض و"اليِّن" التي تكون باللَّون الأسود، نجدُ بينهما خطاً متموجاً وليس خطاً فاصِلاً، وهذا الخط المُتموج معناهُ أنَّه يمكنُ أنْ يمتزجَ الموجب مع السالب وأنْ يتحول الخيرُ إلى الشر.

هذه الدائرة ليست لها بداية ولا نهاية ولا توجدُ فيها أيُّ أطراف وبها مساحةٌ مُضيئة تتخلَّلُها نقطةٌ سوداء، ومساحة مظلمة تتخلَّلها نقطةٌ بيضاء، ومعنى هذا أنَّ الظلام يمكنُ أنْ يُصبحَ نوراً، وأنَّ الخير يُكمِّلُ الشر وهكذا دواليك.

تقومُ دائرة التاو على الثنائية الضِّدية أي إنَّ الشيء يمكنُ أنْ يتحول إلى نَقيضه، وهذا ما نجدهُ حاضراً بقوة في دائرة التاو، وهنا وجدنا أنفسنا قابِعين في عمقِ الجدل الهيغلي الذي استمدَّهُ "هيغل" من الفلسفة التاوية وخيرُ مثالٍ على هذه الفكرة هو "جدلية العبد والسيد عند هيغل" فالعبدُ يصبحُ سيِّداً لسيِّده؛ والسيِّد يصبحُ عبداً عند عبده. وعند ملاحظة "دائرة التاو" تبدو لنا ثابثة ولكنَّها هي مصدرُ التغيُّرِ والحركة.

تعدُّ فلسفة التاو من أبرز الفلسفات التي لم تُناقِش فكرة الخلق، واعتبرت أنَّ الإله ليس مُفارقاً في عالمٍ آخر، فالتاو يوجدُ وراء الشكل والمادَّة أي لا ينتمي إلى عالم الظواهر، فالتاوية تؤمنُ بفكرة اللاوجود وتؤكد أنَّ هذا الأخير (اللاوجود) خرجَ من صُلبهِ الوجود.

الفلسفة التاوية تؤكد وبإقرار أنَّ العدم هو الذي كان وراء الوجود، هنا نجدُ فِكر الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر". إن مجموعة من الفلاسفة الغربيين بدءاً من هيراقليطس وهو أحد الحكماء السبعة ويسمى فيلسوف التغيُّر أو التحول انطلاقاً من قولته الشهيرة: "لا يُمكنك النُّزول إلى النهر مرتين"، مروراً بهيغل وماركس وختاماً بمارتن هيدغر.

يقول "لاوتسو" في جملة بالِغة الأهميَّة في كتاب "التاو"، ترجمة الكاتب السوري "فِراس السواح": "العلم يهدفُ إلى معرفة مما يتكون هذا العالم، أمَّا الحكمة فهي تهدفُ إلى معرفة كيف نستطيعُ العيش في هذا العالم". هنا تم تجسيدُ مفهوم الحكمة كما ينبغي.

إذا اعتبرنا أنَّ التاو هي الطريق، فإنَّ هذا الطريق لا نعرفُ منتهاه، وفي هذا الصدد يقولُ "لاوتسو": "لا تَرسم الطريق قط بشكلٍ مسبق". ثم نجدُ مفهوماً طاغياً عند الصينيين وهو "اللافِعل" ويُقصدُ به أنَّك تسيرُ في الطريق والطريق هو مجرَّدُ احتمالات، مفهوم "اللافعل" جسَّدَهُ "بروس لي" في مقولةٍ جميلة: "أقسى شجرة دائماً تكونُ سهلة التشقُّق، في حين أنَّ الخيزُران أو الصفصاف يبقى على قيدِ الحياة؛ لأنَّه ينحني مع الريح". ومع ذِكرنا لشجرة الخيزُران فإنَّ هذه الشجرة تُشكِّلُ هوية الصينيين وتجمعُ بين المُرونة (في الأكل) والصلابة (في البناء).

إنَّ تلك الإشكالية التي تطرَّقتُ لها في البداية هي مشكلة عرفها تاريخ الفلسفة، فالتاريخُ حسب "إيميل بريهيه" تعترضهُ مجموعة من الصعوبات؛ إذْ لا يمكنُ الحسمُ في أنَّ الفلسفة الغربية ظهرت قبل الفلسفة الشرقية أو العكس، ولكن بعدَ أنْ استمدَّ "هيراقليطس" فلسفةَ التغيُّر من التاوية، مروراً بجدلية العبد والسيد عند "هيغل"، وختاماً بـ"مارتن هيدغر" في إشكالية الوجود والعدم، نخلصُ بفكرةٍ مفادها أن الفلاسفة الغربيين تأثروا بالفلسفة الشرقية؛ ومن ثم فالفلسفة أو حكمة الشرق هي التي كانت السبَّاقة للظهور.

لقد شكلت الفلسفة الصينية نتاجاً فكرياً مختلفاً عن بقية الحضارات الأخرى نتيجة تفكير المُجتمع وحكمة الأفعال وأنماط التفكير السَّائدة، وقد تركت الفلسفة التاوية الأثر الكبير في التيارات الفكرية الماركسية الشيوعية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد