في زاوية عمياء كان قابعاً يتيماً بين عدد من كتب التنمية البشرية التقليدية ذات الشطحات والمبالغات! أظنه كان ينظر إلى كل من يمر هناك نظرة أمل أن يحمله، أن يتصفحه، أن يعانقه عناقاً حاراً، إنه كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى".
يحكي هذا الكتاب قصة ملحمة إنسانية، هي مذكرات كاتبها التي ربما تجاوزته لتتحول إلى سردية يمكن أن يعيشها أي إنسان، خصوصاً مع شَرَه السجون المفرط في مشارق الأرض ومغاربها.
في الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م)، بدأ النازيون إنشاء معسكرات اعتقال ضخمة، في بعضها غرف غاز ثم مصانع لحرق المساجين. تم اقتياد الطبيب النفسي ورئيس قسم الأعصاب بمستشفى روتشيلد في فيينا والذي عمل قبل ذلك على علاج حالات الانتحار، الدكتور فيكتور فرانكل عام 1942م، إلى معسكرات الاعتقال، وكان منها معسكر "آوشويتز" بألمانيا، قضى هناك 3 سنوات إلى عام 1945م.
كان فرانكل في المعتقل شخصاً متجرداً متعرياً في وجوده، مجرد رقم، أما والداه وزوجته وأخاه فقد قُتلوا في المعسكر دون أن يعلم وقتها، هناك عانى الجوع والبرد والقسوة وتوقُّعَ الإبادة في كل لحظة. ولكن هذه التجربة كانت ثرية بحيث إنها أغنت الدراسات التي كان قد عمل عليها قبل دخول المعتقل، فيعتبر فرانكل صاحب مدرسة فيينا الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد، وآدلر، حيث قدم آفاقاً جديدة للعلاج بالمعنى، وفي حين ركز فرويد في مدرسته على اللذة وجعلها محوراً للكون، جعل فرانكل "المعنى" أساسياً في حياة الإنسان.
وإذا كان فرويد قد اهتم بالإحباط في الحياة الجنسية، فإن فرانكل يهتم بالإحباط الذي يتعلق بما سماه "إدارة المعنى". فهناك الوجود ذاته، أي أسلوب الوجود المميِّز للإنسان، وثانياً معنى الوجود؛ ثم السعي للتوصل إلى معنى حقيقي محسوس وملموس، في الوجود الشخصي، أي التوصل إلى إرادة المعنى.
ويتحدد جوهر هذه النظرية في أن الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو هدفاً، فإن ذلك يعني أن وجوده له أهميته وله مغزاه، وأن حياته جديرة بأن تعاش؛ بل إنها حياة يسعى صاحبها لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها.
ولقد وجد فرانكل معنى في المعاناة، معنى يعيش الإنسان من أجله؛ بل لقد وجد معنى في الموت؛ إذ يموت المرء سعياً من أجل معنى ديني أو روحي أو وطني.
يقول فرانكل إنه في الظروف القاسية التي يخبرها الإنسان تكون هناك على الدوام اختيارات مما يأتي به الشخص. ففي كل وقت تتأتى الفرصة لاتخاذ قرار، وهو القرار الذي يحدد ما إذا كنت تنوي أن تخضع أو لا تخضع لتلك القوى التي تهدد بأن تسلبك من ذات نفسك.. من حريتك الداخلية! فنمط الاستجابة إزاء تلك الظروف إنما هو نتيجة لقرار داخلي، وليس نتيجة لمؤثرات تلك الظروف وحدها.
فأي إنسان يستطيع حتى في أبشع الظروف أن يقرر ماذا يريد أن يكون عقلياً وروحياً، وما موقفه من ذاته ومن العالم، وذلك ما سماه "العظمة الداخلية"، ويسوق مقولة "دوستويفسكي" في هذا الشأن: "يوجد شيء واحد يروعني وهو: ألا أكون جديراً بآلامي".. فألوان المعاناة والعذاب تفصح عن تلك الحقيقة بأن الحرية الداخلية الأخيرة لا يمكن فقدها. فالطريقة التي يتحمل فيها الإنسان آلامه ومعاناته تمثل إنجازاً داخلياً أصيلاً.. تلك هي الحرية الروحية، وهي التي لا يمكن سلبها من الإنسان، وهي التي تجعل الحياة ذات معنى وذات هدف.
ويرتبط تسامي الذات بالمسؤولية وبمعنى الحياة. فيقرر فرانكل أن ما يعوزنا حقيقة هو تغيير أساسي في اتجاهنا نحو الحياة؛ إذ كان علينا أن نعلّم أنفسنا، وأن نعلّم الأشخاص الذين استبد بهم اليأس بأن ما هو متوقع من الحياة ليس في واقع الأمر هو موضوع الأهمية؛ بل إن ما يعنينا هو ما الذي تتوقعه منا الحياة. وإن إجابتنا ينبغي أن تقوم لا على الكلام أو التأمل، ولكن على العمل الحق والمسلك الحق. فالحياة تعني في النهاية الاضطلاع بالمسؤولية لكي يجد الإنسان الإجابة الصحيحة لمشكلاته.
ترك فرانكل قبل وفاته في فيينا عام 1997م، عن عمر يناهز 92 عاماً، للتراث الإنساني العلمي، 32 كتاباً، وتُرجمت مؤلفاته إلى 26 لغة، وحصل على 29 دكتوراه فخرية من جامعات عديدة في العالم.
وكتابه "الإنسان يبحث عن المعنى" كتاب فيه العديد من الأفكار الرائدة التي تستحق أن تُقرأ، وهذا المقال في حقيقته دعوة للقراءة في الكتاب والتعرف على أبرز ملامح أفكاره.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.