أيام زمان كانت الدنيا أحلى، كان الكل مبسوطين، كان الأكل أطيب، وكانت العيلة تتجمع كل يوم، وكان كل أهل البلد بيعرفوا بعض، كان القرش له قيمة، كان الكل مؤدب والناس بتخجل من الغلط، كانت الموسيقى أحلى ولها معنى، حتى تعليمنا في المدارس كان أحسن… سأوقفك هنا بالذات!
لا بد أن كل منا سمع هذه العبارات من قبل، فهي تتكرر في مجالسنا، وبخاصة عندما يكون أحد كبار العمر حاضراً، ورد الفعل المتوقع دائماً من الجالسين هو هز الرأس بالموافقة، والتأوه… آآه الله يرحم أيام زمان.
تلك الصورة الوردية، لحياة مليئة بالفرح والسعادة، والحب الأخوي بين أفراد المجتمع، ورغد العيش والرضا بالقليل، وكأن جدي وجدك عاشا في المدينة الفاضلة!
لكن هل كان ذلك حقاً فيما مضى؟ ذلك السرد الذي يكاد يخلو تماماً من أي سلبية!
لا أعتقد ذلك! نعم، أعتقد أن الماضي لم يكن أبدأ بذلك الجمال، وأن زماننا هذا الذي يلعن في الصباح والمساء هو أفضل بآلاف المرّات!
فأيام زمان لم تكن بهذه المثالية، أيام زمان كانت ملايين الناس تموت بسبب الجدري والحصبة والإنفلونزا، أما الآن فيكفي أن أتناول قرص دواء وأرتاح في المنزل ليومين دون قلق حقيقي من هذه الأمراض، أيام زمان كانت معظم الشعوب أمية لا تقرأ ولا تكتب، أما الآن فالغالبية العظمى متعلمة ومثقفة لحد ما، أيام زمان كان السفر طويلاً وخطراً، أما الآن فتقطع آلاف الأميال غير آبه بأحوال الطقس، أيام زمان كانت الخيارات محدودة، أما الآن فنأكل فواكه الصيف بالشتاء وكل ما تريده من وسائل رفاهية مادية هو متاح، تتواصل مع من تحب ولو كان في أقصى الأرض بلمسة واحدة، تستمع لأي لحن تريد بذات السهولة.
أيام زمان كان الناس أكثر طيبة! ممكن، لكن آخر مرة راجعت فيها كتب التاريخ، كانت مليئة بالحروب التي أبادت ملايين البشر، أيام زمان كانت الإمبريالية المستعبدة للشعوب، أيام زمان مُزقت الأوطان، ووُضعت الحدود بين الإخوة، وضاعت الأرض والثروات، وضاعت الهوية.
أيام زمان صمتوا وسمحوا للطغاة بالتغول على الحريات، وسمحوا للفساد أن ينخر مؤسسات الدولة، وبعد هذه الورثة القميئة يأتي من يأتي ليلعن جيل اليوم! وزمانه هذا المليء بالمعلومات، الصاخب المتحرك.
عذراً لأن جيلنا أقلق نوم حضرتكم!
ذلك العشق للماضي المثالي ما هو إلا حالة من محاولات الهروب من أزمات الحاضر، حالة حنين أو ريتروتوبيا لم تكن يوماً. ربما كان هنالك نوع من السلام النسبي، لكن للأسف هي كانت لحظات وهمية، سطحية، بينما كان المرض ينخر في جسد الأمة بصمت، وابتسامة، وخطبة رنانة!
كم يذكرني حال من يقف الآن يبكي على زمان قد مضى، ويغدق عليه المديح والصفات الخيالية، بذلك الشاعر أيام الجاهلية، حيث كان يذهب ليقف على أطلال قوم حبيبته، يتغزل بخيامهم وظلالهم ونيرانهم وحتى ببعر غنمهم! ويبكي، ويتحسر على أيام زمان، على أساس أنه قوم حبيبته رحلوا للصين! يا رجل بدل ما تقعد ساعتين تنظم قصيدة بكاء على الأطلال، كنت ركبت حصانك ولحقتهم! كلها بضعة كيلومترات!
لكن هنا تكمن المشكلة، هو لا يريد الواقع، هو يريد ذلك الخيال، مضارب قوم حبيبته لم تكن تختلف عن أي مكان آخر، بل حبيبته ذاتها ربما لم تكن غايته الحقيقية، فالواقع لم يكن جميلاً لتلك الدرجة، لكن مع رحيلها وقومها، يعيش في حالة من النشوة الخيالية.
عذراً، لكن جيلنا لن يقف ويبكي على الأطلال، جيلنا يحب العلم، ولا يجامل ويستحيي من وصف الشيء كما هو، تعتبرونها وقاحة، لكن الحقيقة ليست جميلة دائماً.
لا نكره الأجيال التي سبقت، على العكس ننظر بشيء من الحزن والشفقة، لما تفعله قلة العلم وتفشي الأمية و"الطيبة الزائدة" وعدم مساءلة من يكبرك عمراً أو من هو أعلى منك منصباً، من باب الاحترام! ربما فعلاً كان ذلك كل ما استطاعوا فعله! وربما حقاً استمتعوا بزمانهم!
لكن نرجوكم، لا تطلبوا منا العودة للوراء، لا تطلبوا منا تقديس من مضى وتنزيههم عن كل نقص، دعونا نعيش زماننا، نحن لسنا مثاليين، ولا أكثر "أدباً"، ولكننا واقعيون، براغماتيون، نقول "لا" دون كثير من الخوف، فدعونا نُجدد أفكار هذه الأمة، فمن يدري لعل الله يمن علينا بنصر يرد ما ضاع في "أيام زمان".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.