أن تبحث عن خالٍ لأولادِك

باختصار تم الأمر، ولا يزال محدثي يمتدح "سعيد" من يُنتظر أن يكون خالاً لأولاده وأهمية أن تنظر إلى أخي أو إخوة من تتقدم إليها فهو -في الغالب- مَن ستتعامل معه أكثر في المستقبل القريب أو البعيد وهو من سيتوسط عند المشاكل قبل أن تتفاقم وتصل لمستوى الأب أو الأسرة، وهو من يستطيع أن يذكرها بالله في زوجها، وأن يشفع فيشفَّع له أو يلوم فيُسمع منه، وهو مَن سيكون خالاً لأولادك ينصحهم ويحفظهم وتلجأ إليه في غيابك عند الحاجة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/10 الساعة 05:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/10 الساعة 05:57 بتوقيت غرينتش

– وأنا في السنة الرابعة من دراستي الجامعية، دعاني أحد أصدقائي للإفطار معه في أحد الأيام الرمضانية التي نفتقدها كثيراً بعدما كبرنا.

قابلت رفاقه في شقة بدت مرفهة مقارنة بالمستوى الذي أختاره لسكن غُربتي، اثنان يدرسان الصيدلة (ندرس نحن الهندسة) يبدو عليهما ظاهر التدين، لحية وجلباب وابتسامات هادئة وبعض -أو في الحقيقة كثير- من الضحك.

الذوق في المعاملة يدفعك للاطمئنان لوجود باطن ديّن كظاهره، هما في السنة الأخيرة ولا تزال أمامنا نحن سنة أخرى؛ لذلك تعاملت معهما بمبدأ توقير فارق السن، وأنهما على وشك الخروج للعالم الآخر، ما بعد الجامعة، أفكر فيما يجب عليهم أن يفكروا فيه ويواجهوه بعد التخرج؛ عمل، زواج، تأخر أحدهما أو كليهما. يمتزج التوقير مع شعور غريب بالشفقة، فليكن الله في عونهما.

لم تخب نظرتي، انشغل عني صاحبي وتبادلت أنا وأحدهما أطراف الحديث، يبدو أن طول القامة كان له دور ما؛ إذ كان أقصر منّي قليلاً بينما كان الآخر طويلاً مثل صاحبي.. إذن، الطويل يتكلم مع الطويل والقصير يتكلم مع القصير.

يحكي لي محدّثي أنه حديثَ خطوبة، تحدث عن أهمية اختيار التدين كالعادة، بدأ بالحديث عن الرؤية الشرعية والأسئلة عن الاهتمامات وما يرجوه كلاهما من طباع شخصية ورؤى دينية والتزام بهما.. إلخ، حكى بشيء من التفصيل، لكنه انساق إلى جانب آخر أظهرت تجربته مدى أهميته.. إنه أخوها.

ذكر أنه بعد القبول والموافقة ولأسباب ما في الاتفاق المادي بين الوالدين، لم يتم الأمر وافترقا مقتنعين -أو مستسلمين- برأي الوالدين.

كان من الواضح أن هناك مفارقة بين الطلبات والتوقعات، ويبدو أن أحد الوالدين كان متشدداً في أمر ما، لكن على أي حال فالاعتذار -لا أذكر من أي طرف- كان مراعياً للذوق مقدراً للطرف الآخر، وهو ما وارب باباً سَيَرِدُه أخوها لاحقاً.

جاء دور الأخ، يصفه لي طيباً ذا دين، فوجئ باتصاله، سأله مباشرة إن كان يرغب بأخته إن تم التقارب في مسألة الماديات! فأجاب بالإيجاب -إن لم يكن بالتمني- بالطبع علم بعد ذلك أن نفس السؤال قد سأله لأختِه، بالرغم من تدقيقي في تلك الأمور نصاً، لكني لا أذكر كيف ذكر لي ما علم من حديث خطيبته وأخيها؛ لعله سألها إن كانت ترغب به، أو لعله سألها مجرد الموافقة للتدخل، أو إن كانت ترى أنه هو الرجل الذي تطمئن نفسها له وتأتمنه عليها، لكن عامة شيء ما من هذا القبيل، وكانت الإجابة بالإيجاب وهو ما كان إشارة لتحركه كما تم.

اتفقا على أن يتحدث كل منهما لوالده، وكان لأخيها الدور الأكبر في تقريب المسافات.

باختصار تم الأمر، ولا يزال محدثي يمتدح "سعيد" من يُنتظر أن يكون خالاً لأولاده وأهمية أن تنظر إلى أخي أو إخوة من تتقدم إليها فهو -في الغالب- مَن ستتعامل معه أكثر في المستقبل القريب أو البعيد وهو من سيتوسط عند المشاكل قبل أن تتفاقم وتصل لمستوى الأب أو الأسرة، وهو من يستطيع أن يذكرها بالله في زوجها، وأن يشفع فيشفَّع له أو يلوم فيُسمع منه، وهو مَن سيكون خالاً لأولادك ينصحهم ويحفظهم وتلجأ إليه في غيابك عند الحاجة.

ثم لا ينسى أن يعود معلقاً في منتصف الحديث ومكرراً كيف لم يستحِ أن يكلمه وهو أخوها، وكيف أن اختيار مَن يراه حافظاً لأخته كان أهم من ماديات سخيفة ومن تلك المظاهر والعادات التي تتحفظ أو تستغرب ما فعله في أحسن الأحوال، وكيف لمح في عيني أخته قبولها واطمئنانها له وسعى فيما يراه الخير والصالح لها، رافعاً عنها الحرج ملبّياً أمراً لم تطلبه، ثم يعود مستمراً في النصح المكرر لي أن أنظر إلى خال الأولاد بقدر أهمية الأب في الأسرة والأم.

– جيرتي الوحيدة في العمارة قصيرة القامة بها ثلاثة إخوة -منهم توأم- وأخت وحيدة لهم، لكأنها كعبة البيت ومحور الاهتمام وقلب همومهم.

على الرغم من تأكدي من وجود سياسة الأمر والنهي مما أراه من طباع بها حدة فيهم جميعاً -خاصة أن الأب غائب- وبالطبع لا تسلم أسرة من خلافات و"خناقات" أخوية، لكن لم أرَ من ذلك شيء طوال سنين الجيرة حتى الآن. هناك تفاهم ما يبدو جميلاً، يُلبّون لها ما تريد دون أن تطلب، هم خَدَمُها وإن لم يقولوا. ترضيهم دون أن يُلَمِّحوا، وتتجنب نواهيهم دون أن يَنهوا، هم أُمراؤها وإن لم تقُل، وكلاهما سعيد بذلك.

ناب الحياة قوي لا طاقة لأحد به إذا أحكم عليه، فلا بد من البحث عن عمل للنجاة منه.

بعد تخرجهم، سافر اثنان منهم للخليج وبقي الأخير بدعوى ضرورة رعاية الأم والأخت. إن قلتَ: نعم ليرعى الأم، قلتُ: الأم ترعاها ابنتها، أما الرجل فلكليهما.

لكن طالت السنون ولم يعثر على عمل في الوطن القاسي، أتى الخال ليعيش معهم (الخال، عاد ذكر الخال مرة أخرى) واضطر الابن بعد ضغط الجميع -في وجود الخال- للسفر. وكجبر لغياب يحزنهم لا يد لهم به، أمطار الهدايا عليها لم تتوقف، كأنها منافسة، من يرضيها لترضى عنه أكثر.

أما حين خطبتها وزواجها، فالأمر لا يحتاج إلى روايته فكل ما تتخيله مباح لك أن تصدقه، وهكذا سينعم الزوج الطيب بأخوال أولاده دوماً.

مرض الخال ذات مرة فذهبت معهم للمستشفى، لم أفعل شيئاً سوى قيادة سيارتي، لكأنني سوبرمان أنقذ حياة الأسرة كلها من هلاك ما! امتنان وشكر إلى درجة الملل، "خلاص يا عم هو أنا عملت حاجة؟".

المستفيد الأكبر من ذلك هو أمي أثناء إجازاتهم: " روح يا عمرو، تعالى يا عمرو"، "روح يا أحمد، تعالى يا أحمد".

تنتظر خروجي أنا وأخي لتطلب منهم ما تريد لأننا جدليان وصعبا المراس في ذلك.

في الحقيقة هم يحبونها وتحبهم ويستشيرونها كثيراً ويلبّون ما تريد منذ أول الجيرة وهم جميعاً في مصر، فمثلهم يفعل ذلك ولو لم تلبّ لهم أمراً قط، لكني دوماً أحب أن أذكر استغلالها لهم وطلباتها منهم مداعباً بطريقتي الماكرة.

– تعلمنا أن استقامة البنت تنبع من تشبعها بالأمان من بيتها فلا تبحث عنه خارجه فتتشوه فطرتها وسلوكها ودينها.

إن كان لها أخ يهتم بها، وأب يرعاها حق الرعاية وأم تحسن التوعية، فماذا ينقص؟ بل أستشعر أيضاً أن أحد هذه الثلاث يجبر غياب الآخر، فلن يُعدم بيت من نقصان وبلاء.

تحت عنوان "باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير"، ذكر الإمام البخاري حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما عرض أمّنا حفصة على عثمان ثم أبي بكر رضي الله عن الجميع، وثاني أحاديث الباب هو حديث أم حبيبة حينما طلبت من رسول الله أن ينكح أختها، لكنها كانت ربيبته وبنت أخيه من الرضاعة فلم يحلّ ذلك.

جميل جداً ومبهج أن تجد في دينك مثل هذا، وإن صار ذلك من النوادر أن نراه، فالعودة إلى الأصل لها الغلبة، ولا شك أن البحث عن من تقر عينك وتتقي الله فيك وتناسبك عقلاً وقلباً نابتةً بين أخٍ صالح وأم مربية وأب قيِّم نادراً في هذه الأيام (دعك من التمشيخ! فلا يعلو على الخلق شيء)، وأحياناً تكون الفتاة مبتلاة في أسرتها، لا شك أن ذلك يستوجب الحذر وإعادة تقييم الأمر، لكن أيضاً قد يكون من الحكمة ألا تؤخذ بذنبهم إن كانت من الصلاح بحيث يصعب لقاء غيرها إن أُفلتت.

يُذكر دوماً أن التوسط في الطلب والتمسك بالأصول واللين فيما ليس فيه ضرورة مطلوب، فلن تعدم من نقص ما.

وأحياناً وجود ميزة نادرة يجبر غيره من النقائص، فإن وفق الله بحسن الاختيار فلا يُنتظر أن تكون خُطى البر الأولى من الصهر، لعلك تحصل على نفس الود والصلة إن كنت أنت من يبدأ بالبر فالبعض لا يحسن البدء، لكنه يحسن رد البر والجميل.

فهذا النوع من العلاقات كالبناء، أساسه يكون بين حديد الود وأسمنت البر، ثم تتعاقب عليه شتى مكارم الأخلاق وصلة الرحم والمجاملات، والعون على مصائب الدنيا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد