أضغاث أحلام

كل ما أفهمه الآن أنني شاهدت هذا المشهد من قبل، أشعر وكأنني كنت هنا من قبل أشاهد نفس المشهد أرى نفس تلك الأشجار، الطريق، الطيور، نزلت ببطء من السيارة، اتجهت حيث الأشجار الكثيفة أو الغابة بمعنى أوضح، سرت كثيراً أو هكذا بدا، أدركت كم مشيت فقط عندما نظرت خلفي ولم أجد أثراً للطريق، ولا أثراً لأحد على الإطلاق!

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/10 الساعة 06:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/10 الساعة 06:31 بتوقيت غرينتش

لاحظت خيطاً للشمس بمجرد أن فتحت عينيّ، أدركت حينها أن الفجر قد بزغ منذ دقائق فقط، لم أكن أشعر بجسدي جيداً، لم أستطِع تلك الليلة أن أغطَّ في نوم عميق كعادتي.

أيقظني صوت المطحن الذي كانت أمي تطحن فيه حبات الفلفل الأسود، وبعضاً من بهارات أخرى.

أشعر وكأن رائحته ما زالت في أنفي حتى الآن، ارتبطت رائحة الفلفل الأسود لديَّ بالسفر، أعلم أنه ربط غير معقول أو منطقي، كان ربطاً يشوبه بعض من الغموض، تماماً مثل سفرتنا تلك.

اتجهت إلى المطبخ؛ حيث كانت أمي منهمكة تماماً في طحن الفلفل والتحضير لسفر بدا طويلاً.

وبعد حديث قصير دار بيننا، اضطررت إلى أن أسرع على أثره في تحضير أغراضي للسفر، اتجهت إلى غرفتي؛ حيث كان الجميع يتحضر، التقطت بعضاً من ملابسي ثم انطلقنا جميعاً.

كانت خيوط الفجر قد بدأت بالظهور في وضوح، واحداً تلو الآخر، في تأنٍّ مُبالغ، لا أتذكر من طريق سفرنا سوى مشاهد قليلة ولكنها مُركزة، عميقة، وواضحة.

طريق ضيق لا يحيطنا فيه سيارة أخرى، لا بنايات، لا بشر، لا يتغير مشهد الصحراء على اليمين واليسار إلا ليصبح خضراء على مدّ البصر، ثم تعود الصحراء ثانية وهكذا، لم أرَ في حياتي مثل تلك السيمترية التي لا تبدو منطقية، ولكنها زادت سفرنا عجباً فوق عجب.

الهواء العليل الذي كان يتخلل خصلات شعري المُجعد فيجعله يتراقص، يمنةً ويسرة رغماً عنه، لطالما أحببت ذلك حتى إنني كنت أقف مُستغلة عربتنا المكشوفة استجابة لنداءاته المتكررة.

كان سفراً هادئاً رغم طول المسافة التي لم أتذكر تحديداً كم بلغت، كأن كل منا قرر أن يستمتع منذ اللحظة الأولى.

وجد بعضهم متعةً في قراءة كتاب، بينما فضّل آخر النوم حتى الوصول، أما أنا فقررت الاستسلام إلى تفكير طويل في اللاشيء ما عدا طريق رحلتنا الممتع الغامض وصوت فيروز الذي يرافق أفكاري دائماً.

لم أعرف كم استغرقنا من الوقت في رحلتنا تلك، فقدت تماماً إحساسي بالوقت وأنا أستمتع بالهواء وبصوت فيروز، وبالمنظر البديع على جانبي الطريق، أخذتني أفكاري إلى دوامة لم أفِق منها إلا عندما توقفت السيارة.

هبَّ كل منّا بالنزول، وأدركت أنا أننا قد وصلنا إلى وجهتنا فقط عندما نزل الجميع.

نظرت إلى يمين الطريق؛ حيث يجب أن نتجه، توقف نظري لبرهة وتوقف معه المشهد كاملاً كأن شيئاً لم يتحرك، عيناي، الشجر الذي أراه أمامي، حتى الطيور التي كانت تحلق بالأعلى توقفت للحظة، لم أفهم لماذا؟

كل ما أفهمه الآن أنني شاهدت هذا المشهد من قبل، أشعر وكأنني كنت هنا من قبل أشاهد نفس المشهد أرى نفس تلك الأشجار، الطريق، الطيور، نزلت ببطء من السيارة، اتجهت حيث الأشجار الكثيفة أو الغابة بمعنى أوضح، سرت كثيراً أو هكذا بدا، أدركت كم مشيت فقط عندما نظرت خلفي ولم أجد أثراً للطريق، ولا أثراً لأحد على الإطلاق!

لسبب لا أفهمه لم أشعر بوحشة، لم أقف لثانية واحدة، ظللت أسير داخل الغابة أنظر إلى الأعلى فأرى بعضاً من الطيور تحلق، وتغرد أحياناً، ربما أرادت أن تؤنسني بعض الشيء، بعضاً من الزهور أراها مُتناثرة هنا وهناك، لم تؤثر قلّتها على روعة المشهد، لا يجب أن يكون الجمال مبالغاً به حتى نلحظه!

لم أحب يوماً الغابات، لطالما شعرت بوحشة تجاهها ولم أسعَ يوماً إلى زيارة إحداها، ولكن يبدو أنه علينا تجربة الشيء قبل أن نلفظه.

لم أعرف لماذا أسير بهذه الثقة تجاه ما لا أعلم، وكأنَّ شيئاً يدفعني لمواصلة السير، وكأن شيئاً يجذبني جذباً! لم أفكر لبرهة أن أعود باتجاه الطريق، صرت أمشي وكأنني أبحث عن شيء أجهله تماماً، يصاحبني ويؤنسني صوت الطيور، ويبهجني منظر الوردات التي تنبع من بين الأشجار الكثة بين الحين والآخر.

ثم توقفت، وتوقفت عيناي ثانية، كأن رِجليّ مأمورتان أن تسيرا هذا الطريق حتى وصلت إلى آخره، إلى ذلك الكوخ، أسرني منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناي عليه، حتماً شاهدته من قبل، هل كان ذلك في حلم، أم لوحة، أو ربما فقط رسمه خيالي يوماً!

كان هناك سلّم خشبي يؤدي إلى ذلك الكوخ، وعند السلم وجدت حقيبتي التي جئت بها!

لم أتوقف كثيراً لأفكّر من وما الذي جاء بها إلى هنا.

صعدت أول درجة نظرت لأجد إلى الجانب الأيسر من الكوخ بحيرة صغيرة يسكنها بعض من طيور النورس جذبني لونها الأبيض الذي بدا وكأنه يشعّ نوراً، واصلت الصعود حتى وصلت إلى آخر درجات السلم؛ حيث باب خشبي ضخم، لا أثر لغبار عليه، توقفت لبرهة، هل أفتح ذلك الباب؟ هل يوجد أحد بالداخل؟ ربما عائلتي قد سبقوني إلى هنا؟ أو ربما لا أحد على الإطلاق.

هل أفتحه أم أهرب؟ ربما يكون ذلك فخاً، وربما بالداخل سأجد كنزاً، هل سعيت من قبل إلى أن أمتلك كنزاً أو شيئاً من ذلك الهراء؟ دوامة من الأفكار السريعة المتلاحقة المتلاطمة لم يقطعها سوى صوت الباب وهو يُفتح، نظرت إلى الأعلى في دهشة.

فتحت عينيّ بسرعة لم أعهدها من قبل، نظرت إلى أعلى، ثم إلى جانبي حيث رأيت إخوتي يغطون في نوم عميق فأدركت بسهولة أنني ما زِلت بغرفتي، كأن كل شيء ساكن، لا أثر لصوت أو حركة، نظرت إلى النافذة، الشمس على وشك البزوغ، حاولت أن أنهض، بطيئاً، ثم نهضت، دلفت خارج الغرفة، فسمعت صوتاً وحيداً، اتجهت إلى حيث مصدر الصوت الوحيد الذي كان يشق الصمت؛ لأجد أمي تطحن حبات الفلفل الأسود.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد