أزعم أننا نعيش إسلاماً عباسياً وليس أموياً كما يدّعي البعض، فمذهب الأوزاعي شيخ الأمويين على سبيل المثال انقرض منذ زمن بعيد، بينما بقيت المذاهب التي ظهرت وقت العباسيين وشكّلت الإسلام الذي نعرفه الآن.
ورأيي أن اللاعب الأساسي في قيام هذه المذاهب هو الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور (حكم 136 – 157هـ).
وقد ظهر مذهبان من المذاهب الأربعة في عهده وبرعايته: أولهما المذهب الحنفي الذي ينسب للإمام أبي حنيفة (ت. 150هـ) وهو مذهب نما في بغداد التي أسسها المنصور آنذاك، واتسع بمؤازرة الدولة العباسية.
وثانيهما المذهب المالكي وقد لعب المنصور كذلك دوراً أساسياً في ظهوره وانتشاره.
والغريب أن هذه المذاهب حرصت على استبعاد فقه الإمام عليّ وفتاويه.
وهذا ما يحتاج لشرح حتى نفهمه؛ لأن هذا في رأيي كان تطبيقاً لرؤية المنصور للإمام عليّ وبنيه، والمذهب المالكي مثال جيد لذلك.
كان أبو جعفر هذا أكثر خلفاء العباسيين فقهاً، وهو الذي وطّد للعباسيين وأسس لحكمهم الطويل بأن بنى لهم دولة قوية وعاصمة محصنة وقضى على معارضيهم دون رحمة.
وكان من أخطر الثورات التي واجهها وتغلب عليها ثورة "محمد النفس الزكية"، حفيد الإمام علي بن أبي طالب، الذي أعلن خلع المنصور سنة 145هـ ودعا لنفسه وتبعه بالطبع أهل المدينة.
وقد لعب الإمام مالك دوراً غريباً في هذه الثورة، فقد كان أهل المدينة يستفتونه هل يتبعون محمد النفس الزكية رغم أنهم بايعوا المنصور من قبل؟ فكان يفتيهم بأنهم بايعوا كرهاً وليس على المكره بيعة.
وهذه بالطبع فتوى لصالح ثورة محمد النفس الزكية، ويبدو أن العباسيين حقدوها عليه.
وكان العباسيون يخشون الطالبيين كثيراً بسبب إيمانهم الذي لا يتزعزع بحقهم في الخلافة قبل غيرهم، ولذلك حرص المنصور قبل الصراع العسكري مع محمد النفس الزكية على أن يهزمه بداية في الميدان الجدلي بهدم الأسس النظرية التي أقام عليها وأبناء الإمام علي أحقيتهم في الخلافة، وقد قدم لنا في هذا المجال نصوصاً غاية في الذكاء والقوة لهدم ما يقول به الطالبيون، منها على سبيل المثال هذا النص:
"بعثَ الله محمداً (صلى الله عليه وسلم) وله عُمومة أربعة فأجابه اثنان أحدُهما أبِي (العباس) وأبي عليه اثنان أحدُهما أبوك (أبوطالب) فقطع الله ولايتَهما منه ولم يَجعل بينهما إلا ولا ذمَة ولا مِيراثاً. وأما قولُك: إنا بنو رسول الله فإن الله يقول: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين"، ولكنكم بنو ابنتِه، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها! وأما ما فَخرتَ به من عليِّ وسابقته، فقد حضرتْ النبيَّ الوفاةُ فأمر غيرَه بالصلاة، ثم أخذ الناسُ رجلاً بعد رجل فلم يأخذوه، وكان في الستّة (من أصحاب الشُّورى) فتركوه كُلهم دفعاً له عنها. أما عبدُ الرحمن فقدم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متهم، وقاتله طَلحة والزبير، وأبى سعدٌ بيعتَه، وأغلق بابَه دونه، ثم بايع معاويةَ بعده. ثم طلبها بكلِّ وجه وقاتل عليها، وتفرق عنه أصحابه، وشك في شيعته قبل الحكومة، ثم حَكّم الحَكَمين ورضي بهما، وأعطاهما عهدَ الله وميثاقَه، فاجْتمعا على خَلْعه. ثم كان حسن فباعها من معاوية بِخرَق ودراهم ولحق بالحجاز، وأسلم شيعتَه بيد مُعاوية. فإن كان لكم فيها حقّ فقد بِعْتموه وأَخذتُم ثمنَه. ثم خرج عمُّك الحُسيَن بن عليّ على ابن مَرْجانة (عبيد الله بن زياد) فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه، وأتوا برأْسِه إليه. ثم خرجتُم على بني أُمية، فقتّلوكم وصَلّبوكم على جُذوع النخل، وأحرقوكم بالنِّيرانِ، ونَفوكم من البُلدان، حتى قُتل يحيى بن زيد بخُراسان، وقَتلوا رجالَكم وأسروا الصِّبْية والنِّساء، وحَملوهم بلا وطاء في المحافل كالسَّبي المجلوب إلى الشأم؛ حتى خرجنا عليهم فَطلبنا بثأرِكم، وأدْركنا بدمائكم وأورثناكم أرضَهم وديارَهم" (تاريخ الطبري، 7 / 569 – 571). وفي "العقد الفريد": "وأردنا إشراككم في مُلكنا، فأبيتم إلا الخروجَ علينا" (5 / 342).
وعندما انتهت الثورة بقتل محمد النفس الزكية أرسل المنصور ابن عمه جعفر بن سليمان والياً على المدينة. وقد احتال جعفر بن سليمان كثيراً حتى تمكن من إهانة الإمام مالك وجلده 70 جلدة! وفي "وفيات الأعيان" أن يده مدت حتى انخلعت كتفه!
وهذه قضية ملغزة تاريخياً وفيها كلام كثير، ولكنني أميل لهذا السياق التاريخي الذي اقدمه هنا: الثورة كانت 145هـ وفتوى الإمام مالك التي أغضبت العباسيين ثم ولاية جعفر بن سليمان 146هـ وفيها كان الجلد أو في السنة التي تليها. وعندما تحدث ابن الجوزي في "شذور العقود" عن سنة 147هـ قال: "وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان".
ونعرف أن أبا جعفر المنصور كتب للإمام مالك ينكر معرفته بالأمر، وأنه لا بد من معاقبة والي المدينة؛ لأنه فعل ما فعل دون معرفة الخليفة. وأي دارس لأبي جعفر المنصور لن يصدق هذا الكلام؛ لأن ما حدث بالتأكيد كانت خطة من خططه. وأراد أبو جعفر المنصور من الإمام مالك أن يزوره في بغداد وكان قد انتقل إليها حديثاً رغم استمرار البناء فيها، إلا أن الإمام مالك استعفاه واعتذر من ذلك فأعفاه أبو جعفر المنصور وواعده اللقاء في موسم الحج القادم.
وقد حدث اللقاء بالفعل ولا بد أن هذا كان في سنة 147هـ. والرواية التي وصلتنا عن هذا اللقاء هي للإمام مالك نفسه، وهي موجودة في "الإمامة والسياسة" المنسوب لابن قتيبة. وكان الإمام مالك منبهراً بعلم الخليفة وفقهه. وفي هذا اللقاء كما يذكر الإمام مالك قال له أبو جعفر المنصور:
"يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوّنهُ، ودوّن منه كُتباً، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عبّاس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة رضي الله عنهم؛ لنحمل الناس -إن شاء الله- على علمك وكُتبك، ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها".
وعندما قال له الإمام مالك: إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرونَ في عملهم رأيَنَا"، قال له أبو جعفر: "يُحملون عليه، ونضرب عليه هاماتِهم بالسيف، ونقطع طيّ ظهورهم بالسّياط، فتعجّل بذلك وضعها فسيأتيك محمّد المهدي ابني العام القابل -إن شاء الله- إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله" (الإمامة والسياسة، ص 202).
وهذا ما كان وضع الإمام مالك كتابه "الموطأ" أساساً لمذهبه المالكي! وربما يعني بأهل العراق الذين يرفضون رأيه شيعة الإمام عليّ أي أن الرفض متبادل.
وظني أن هنا التقى أبو جعفر المنصور والإمام مالك على أرضية واحدة، وهي رفض الفقه العلوي أو الطالبي أو الشيعي، ولذا لا تجد له أثراً في كتاب "الموطأ".
وقد لاحظ ابن تيمية هذا في كتابه "منهاج السنة النبوية"؛ حيث قال: "ليس في الأئمة الأربعة – ولا غيرهم من أئمة الفقهاء – من يرجع إليه في فقهه، أمّا مالك فإنّ علمه عن أهل المدينة. وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول عليّ، بل أخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة، عن زيد وعمر وابن عمر ونحوهم" (منهاج السنة النبوية، 7 / 529).
وربما لهذا كله اهتم العباسيون بكتاب الإمام مالك وقدّموه على غيره، ونسخوه ونشروه في الآفاق، بل وكانوا يدرسونه لأولادهم حتى قيل: أخذ عنه الموطأ من الخلفاء المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.