إن أكبر مفسدةٍ يمكن أن تلحق بدين الإسلام ليس تلك الشبهات التي يطرحها الملحدون أو أصحاب الأديان الأخرى، فدين الإسلام، وبفضل الله تعالى، دعائمه قوية ومحصنٌ أمام هذه الشبهات والأباطيل، ولكن المفسدة الحقيقية تقع من هؤلاء الذين يفسدون الدين وهم يدعون انتسابهم له والدفاع عنه، ويتسمون بألقاب ليست بموضعها كالعلماء والشيوخ والمفكرين، وغيرها من الألقاب التي تطلق عليهم، والتي ينطبق عليها قول الشاعر:
ألقاب مملكة في غير موضعها ** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
من هم هؤلاء؟
هم شيوخ السلاطين، وعلماء السوء، ومفكرو بلاط الحاكم، أصحاب العمائم التي عشعش وباض وفرخ فيها الجهل وتقديس الحاكم الظالم الطاغية، وبنى عليها عنكبوت التخلف شبكته الكبيرة، فسَدت مجال الرؤية لديهم، وضيقت ما وسع الله عليهم، فأصبحوا ينظرون إلى الحاكم بنظارة التبجيل والتعظيم له ولصنائعه.
فلو أكل الشعب فهذا بفضل الحاكم، ولو درس الشعب في المدارس والجامعات فهذا من فضائل صنائع الحاكم، ولو بنيت المستشفيات ليتطبب بها الناس، وشقت الطرقات ليسيروا فيها، فهذا تمننٌ من السلطان على رعيته، وليس واجباً عليه!
ولو قتل وسجن وعذب الحاكم فهذا حقه، والحق ما قاله أو فعله الحاكم!
في يوم عرفة حيث القلوب تتقرب إلى الله، والألسن تناجيه وتلهج وتتضرع له بالدعاء أن يرفع البلاء عن بلاد المسلمين، يقف أحد هؤلاء الشيوخ؛ ليدعو الناس أن يتقربوا إلى الله لا بفعل الطاعات وترك المنكرات، وإنما التقرب يتم -بنظر هذا الشيخ-بحب الحاكم والدعاء له ولابنه!
ونسي هذا الخطيب، أو تناسى عن قصد، أن هذا الحاكم قبل شهرين فقط أمر بحصار المسلمين، لا بل منعهم أيضاً من الحج، وكأن البيت العتيق ملكٌ له ولآبائه من قبله، ونسي هذا الخطيب أيضاً أن الحاكم نفسه هو الذي انتهك الحرمات، وأطلق قنوات الفساد.
حبرٌ آخر من أحبار السلاطين يحلل ما حرم الله، ويحرم ما حلل الله، يُدخل أبا لهب جنان النعيم، ويخرج من شاء من المسلمين من دين الله، فتاويه جاهزة دائماً، متى أراد الحاكم الطاغية فتوى على مقاسه، فهذا الحبر يلبيه فوراً ودون جدال.
وأما الثالث فقارئ للقرآن يؤم الناس بالصلاة، ويحفظ كتاب الله، ولكن قلبه معلق بالحاكم، دعاؤه للحاكم، نسكه للحاكم، يقرأ القرآن لا يتجاوز تراقيه، لا يكف عن دعوة الناس إلى طاعة ولي الأمر، حتى وإن كان في معصية الخالق.
قال أنس بن مالك، رحمه الله: "رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه".
لو أتينا على أحد المباني لنهدمه، فبالتأكيد المهندس خبيرٌ في تهديم هذا المبنى أكثر من المحامي أو الطبيب أو أي صاحب مهنة آخر؛ لأن هذا المهندس درس عملية الإنشاء وخبرها، فهو يعرف كذلك كيف تكون طريقة الهدم، وكذلك هؤلاء الشيوخ الضالون المضلون يعرفون أساليب الهدم؛ لأنهم درسوا الدين وعلموا وخبروا عنه الكثير، ولكن دورهم ليس هدم الدين، فهذا الدين محفوظ من قبل الله تعالى، بل دور هؤلاء الشيوخ هو هدم الصورة العظيمة للدين، التي انطبعت في أذهان الشعوب، ولهذا قال عبد الله بن المبارك، رحمه الله تعالى:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها
فباعوا النفوس ولم يربحوا ** ولم تغلُ في البيع أثمانها
فهؤلاء الشيوخ هم سحرة الطغاة والفراعين، أحفاد نسل ابن باعوراء، باعوا علمهم ودينهم بثمن بخس دراهم معدودة، وانسلخوا من آيات الله؛ ليرضوا الحكام ويتقربوا إليهم زلفى، علَّ الحكام يجعلونهم من حاشيتهم ويدخلونهم في بلاطهم، فاستبدلوا رضا الله برضا الحاكم، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكانوا من الغاوين.
وهنا يأتي تساؤلٌ هام وهو أن صورة الشيوخ والعلماء تشوهت في أذهان الناس، وأصبحوا مدعاةً للسخرية وتنفير الناس من دين الله، لكن لا يخلو زمان أو مكان ولا عصرٌ أو مصر من علماء ربانيين، عرفوا الحق فاتبعوا سبيله، وعلموا أنهم ورثة الأنبياء، فقرروا أن يمشوا على نهجهم، هم أحفاد العز بن عبد السلام، بائع الملوك والسلاطين، عملوا بعلمه، واستنوا بسنته ببيع الملوك.
والسؤال هنا: كيف نميز هؤلاء عن علماء السلاطين وعلماء اتباع الأهواء؟ كيف نفرق بين الغث والسمين؟
والجواب على بساطته، ولكنه يحتاج لبحث ودراية، فأيُما عالمٍ أو شيخٍ قال قولة أو فعل فعلةً فلنعرض قولته أو فعلته على كتاب الله وسنة نبيه، فإذا وافقتا الكتاب والسنة نأخذ بهما، وإلا يُضرب بهما عرض الحائط مباشرةً.
ختاماً جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، الطبقة العشرون، في ترجمة الإمام العالم محمد بن أحمد الرملي، الملقب ابن النابلسي، أنه عندما أُتي به ووقف بين يدي المعز لدين الله العبيدي: فقال له -أي المعز-: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً، وفينا تسعة -أي في العبيدين-، قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية. فأمر المعز لدين الله بسلخ هذا العالم الجليل، وكان رحمه الله وهو يُسلخ حياً يتلو قوله تعالى: (كان ذلك في الكتاب مسطوراً)، حتى إن سلاخَه اللئيم تأثر لهذا المشهد فعندما وصل إلى صدره وكزه بالسكين في قلبه فقتله.
لم أورد هذه القصة لهذا العالم الجليل من باب المقارنة بينه وبين شيوخ السوء، فشتان بين عالم الرحمن وعالم السلطان، شتان بين العالم الرباني الذي يبين الحق للناس ولا يكتمه حتى وإن ضحى بنفسه في سبيل تبيان الحق، وبين العالم السلطاني الذي يأخذ من الحق ما يناسب ولي أمره السلطان الطاغية، ويكتم ما سواه ليرضيه.
أوردت هذه القصة لابن النابلسي؛ لأبين الفارق الكبير كيف كان العلماء في السابق وكيف صاروا اليوم.
نعم لا يخلو الأمر اليوم من علماء ربانيين يقولون الحق، ولا يخشون في الله لومة لائم، ولكن الفارق بين أيامنا الحالية وبين الماضي أن كفة علماء السلطان في زماننا قد رجحت بشكل كبير، فهم الكثرة الغالبة، وأما العلماء الربانيون فهم القلة.
لكن في الماضي كان العكس تماماً، ولذلك كانت أحوالنا في السابق مغايرة لما نحن عليه الآن، فطبيعة العلماء سبب رئيسي في تغيّر أحوالنا.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي صححه الألباني، وورد في مسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو:(أكثر منافقي أمتي قُراؤها) صدق رسول الله، فما أكثر القُراء والشيوخ المنافقين اليوم! وهم أشد الناس نفاقاً بلا شك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.