طُلب مني أن أكتب مدخلا في منهجية الدراما التعلّميّة -أو استخدام اللعب التخيّلي في التعلّم- يضع القارئ المهتم على أول عتبات تذوّق هذه الطريقة. وهو طلب شديد الصعوبة، لأنني لا أستطيع أن أقتبس تاريخ المنهجية وتعريفاتها وأركان التصميم ومثالا لأبين لك ما الذي تعنيه هذه المنهجية، لأنني أنا نفسي عندما قرأت عنها في الكتب لم أستطع أن أدرك ما أدركته حال كوني منخرطا في الدراما كمشارك.
عندما بدأت رحلتي مع دبلومة الدراما التعلمية التي تقدمها مؤسسة عبد المحسن القطان، المؤسسة الفلسطينية الرائدة في مجال التعليم، كان من حسن حظّي أن أن يكون أول أساتذتي مالك الرّيماوي وفيفيان طنّوس، وذلك لأنهما لم يحدّثانا عن الدراما، ولكنهما تحدثا معنا في الدراما، بمعنى أنهما بدآ معنا تجربة دراما تعلمية مباشرة كأنهما أستاذان في صف ونحن التلاميذ، لقد كنا نفهم بأنفسنا ما الذي تعنيه الدراما التعلمية من خلال ما يحدث لنا ونعيشه، وكانت هناك وقفات نشارك فيها تأملاتنا التي جمعناها، ووقفات أخرى كان مالك وفيفيان يشرحان فيها مفهوما نظريا ما متعلقا بحدث عملي قد خضناه وأثار انتباهنا أو تساؤلنا. لقد خضت مع مالك وفيفيان تجربتيّ دراما تعلمية، ومازالت هاتان التجربتان إلى يوم الناس هذا تشكلان مرجعيتي في الخبرة الوجدانية -وهي الأهم والأصعب في التحصيل- والمفاهيمية لما تعنيه الدراما التعلمية.
ولكل ما سبق، يعدّ كتابة مدخل حقيقي للدراما التعلمية أمرا في غاية الصعوبة، كونها خبرة وجدانية عملية، ولكنني قررت أن أحاكي معكم -كنوع من التجريب- ما فعله معي مالك وفيفيان، أن آخذكم إلى غرفة الصف، وأبدأ دراما تعلمية قصيرة أمامكم، وننقل حديثنا عن الدراما إلى داخلها، لعل ذلك يقرب الصورة نوعا ما من الخبرة العملية الحقيقية.
غرفة الصف بالنسبة لنا عالم واسع بلا جدران وفوق قوانين الزمان والمكان، نستطيع أن نحضر إلى داخلها: أغوار السماء، مركز الأرض المنصهر، مخلوقات الفضاء، الماضي السحيق، المستقبل البعيد، الحرب والسلام، الحرية والعبودية، والحب، يمكن أن نقابل أينشتين أو آرييل شارون، يمكن أن نساعد سيندريلا أو بينوكيو، عدنان ولينا أو جودي أبوت، وكل شيء وأي شيء يسعه خيالي وخيال تلاميذي وشركائي في الرحلة. إنه خشبة مسرحنا السحري، إلا أنه مسرح نحن المؤلفون والمخرجون والممثلون ومهندسوا الديكور والمتفرجون والمعلمون والمتعلمون فيه، لا أحد غيري وغير تلاميذي (شركائي) في هذه الرحلة الأخاذة التي نصنعها معا.
بعد أن أنهي تخطيطي للدراما التعلمية التي سنخوضها، أذهب للصف في وقت مبكر قبل حضور التلاميذ لأقوم بإعداد المكان الذي ستبدأ فيه مغامرتنا الجديدة، أزيح الكراسي والطاولات إلى حواف الصف بحيث أضمن أكثر مساحة حرة ممكنة، وأضع في وسط القاعة بعض قطع الحطب عليها قصاصات حمراء كأنها ألسنة لهب مشتعلة، وأضع حول النار bean bag واحدة، ووسائد صغيرة بعدد التلاميذ، ولاستخدامي الشخصي: أحضر عصا خشبية ووشاحا وأقوم بوضعهما على الـ bean bag حتى أستخدمهما في الوقت المناسب.
إن الكيفية التي يعدّ بها المعلم صفّه بحيث يدفع التلاميذ للتساؤل عن "ما الذي يجري هنا بالضبط؟" هو أمر في غاية الأهمية لبدء الدراما التعلمية؛ لأن الدافع الذي يتولّد من هذا السؤال الاستقصائي الذي يسأله التلاميذ هو الذي سيسمح لهم بأخذ الأحداث خطوات للأمام، وسيضمن لنا أن ينخرطوا في هذه الرحلة الاستكشافية. وبغض النظر عن هذه الأسباب التقنية، فإنني وبشكل شخصي أشعر بحال من الرضا والاستمتاع لا توصف، عندما أنجح في استثارة نظرات الفضول والاستغراب في عيون التلاميذ وعقولهم، وأن أجرب هذا الرضا والاستمتاع مرة بعد مرة هو دافع كاف بالنسبة لي للاستمرار في إثارة فضولهم وتساؤلهم.
أقضي النصف ساعة التالية مقرفصا في زاوية الصف، ومترقبا على أحر من جمر دخول التلاميذ من الباب، أتخيل في عقلي نظراتهم المدهوشة، ضحكاتهم المستغربة، مريم التي ستقول وهي تضحك أنها حركة مجنونة جديدة من الأستاذ، عمر الذي سيتذمر من كل شيء حتى قبل أن يجرب، جنى التي ستراقب من بعيد وتحلل الموقف برمته قبل أن تقرر المشاركة، مارية التي سترفع يدها لأنها تظن أنها عرفت ما الذي سيحدث قبل أن يحدث، صور تلاميذي تتداعى، وفي داخلي خوف خفي من أن كل شيء يمكن أن يفشل، وما الذي سأفعله حينها كبديل.
أسمع الأصوات في الممر تتعالى، وأبلغ أقصى درجات التحفز، فلحظة الحقيقة تقترب. وفجأة يُفتح باب الصف، ثم أشاهد أول علامات الانتصار، ذلك التباطؤ المتفاجئ في حركة الأطفال بعد دخولهم المندفع، واحد بعد الآخر ينظرون بتساؤل عن ذلك الحضور الغريب في وسط الصف، ينظرون لي، فأشجعهم بابتسامة وأشير لهم بإصبعي أن يدوروا حوله ويلاحظوه من كل الجهات وأكمل بابتسامة غامضة "ولكن دون أن تلمسوا شيئا، فمن يدري من أصحاب هذه الأشياء؟ وما الذي يمكن أن يفعلوه بنا إذا اكتشفوا أننا عبثنا بأغراضهم؟".
في التدوينة القادمة سأحكى لكم كيف أدخل مع شركائي التلاميذ إلى عالم قصتنا المتخيل ..تابعونا ..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.