كان تأثير صديقاتي اللبنانيات اللغوي طاغياً عليّ في أولى سنواتي الجامعية، حيث كنت أدرس وأعيش بالسكن الجامعي في لندن، ولم ألبث أن تعلمت منهن الكثير من المفردات الشامية، فرحت أتحدث بها وأنا أترنَّح في كثير من الأحيان بين العامية المصرية والعامية اللبنانية، يتخللهما الكثير من المفردات الأجنبية.
ولم أكن على وعيٍ كاملٍ بما يحدث للهجتي ولا كان هدف إدخال الكلمات الأجنبية وقتئذ معروفاً لديّ، فكان هذا هو واقعي اللغوي دون أي تحليل أو وعي مني، حتى جاء يومٌ كنت أتحدث فيه إلى أبي تليفونياً فقلت له: "ألو بابا". وكان منه أن انزعج جداً، ثم وبَّخني قائلاً إننا لا نتحدث بهذه الطريقة، وإن هذه اللهجة ليست لهجتنا!
كانت هذه المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى واقعي اللغوي، وربما لم أتوقف عما كنت أفعله من ترنّح اللهجات، ولكني كنت حريصة على أن أتحدث إلى أبي باللهجة التي لن يوبخني من أجلها: اللهجة المصرية!
تركت لندن ولم أتخذ دراسة اللغويات طريقاً لي في أول حياتي، ولكني ظللت مولعة باللهجات والمفردات الجديدة التي أتعلمها من اللهجات العربية المختلفة، لدرجة أن كلمة "بالزاف" دخلت مفرداتي الشخصية وأصبحت أستخدمها بلا وعي مني فترة من حياتي، كما دخل أيضاً عدد من المفردات الأخرى لا أستطيع إحصاءها.
وعندما أتحدث عن المفردات الشخصية، فذلك لأن لكل منا حصيلته الخاصة من المفردات التي تخصه، وقد تختلف تماماً عن شخص آخر ربما يعيش في محيطه حتى لو كان الأخ أو الأخت، فبعضنا اختار أن يستخدم "عايز" بينما البعض الآخر يستخدم "عاوز" بمعنى "أريد" والاثنان استخدامهما صحيح، ولا يعيب استخدام واحدة منهما المتحدث بأي شكل من الأشكال، أما سبب اختيار الشخص إحداهما، فذلك أمر يستدعي البحث والتمحيص. وكذا الحال بالنسبة لـ"برطمان" و"بطرمان" و"جنزبيل" و"زنجبيل"، وهكذا من المفردات العامية.
وما يستحق لفت النظر حقيقةً هو تدارك المنهجيِّين من مدرسي اللغة العربية لغير الناطقين بها خارج الوطن العربي لمحيط دراسة اللغة العربية بين أبنائها من متحدثي اللغة الأصليين (نحن)، والمحيط المعنيّ هو كيف نتعلم عربيتنا الفصيحة؟
نحن نذهب إلى المدرسة صغاراً بحصيلة مفردات وتركيبات عامية لندرس لغة قريبة منها نتحدثها ولكنها ليست هي… أي والله، ليست هي! وليت الأمر ينتهي هنا، ولكن أستاذ مادة اللغة العربية في جميع المراحل يستخدم العامية في الصف للحديث إلى الطلاب وأيضاً للشرح!
نعم.. يتم شرح الفصحى بالعامية! هذا هو الواقع ويجب أن نعترف به، فماذا يحدث لأبناء اللغة من هذا المزج غير المعنيّ لإنتاجهم اللغوي؟ يحدث ما أطلق الدكتور العالم اللغوي النابغة السعيد بدوي عليه تسمية: عامية المثقفين، وهذه العامية التي نراها في برامج التوك شوز الآن، وكنا نراها قديماً في برنامج العلم والإيمان وعالم البحار وحتى برنامج "لغتنا الجميلة" لفاروق شوشة، كنا نرى فيها هذا المزج بين العامية والفصحى.
كما كنا -وما زلنا- نقرأ هذا المزج في كتابات لكتّاب هم علامات في الأدب العربي، فكم من حوار عامي قرأناه ونحن نقرأ رواية لأحد أدباء الفصحى، وكان يحيى حقي يستخدم المفردات العامية عندما لا يجد من الفصحى ما يطوعه لإدراك المعنى. أما نجيب محفوظ، فاستخدم التركيب العامي في الحوار، إلا أنه أبقى الكلمات الفصيحة، فكانت أقرب للعامية منها للفصحى.
وقد أوجز المؤلفون هذا الواقع اللغوي في منهجية جديدة؛ ألا وهي إدراج الفصحى والعامية في الكتاب نفسه وفي الصف نفسه كنوع من محاكاة ما يحدث لابن اللغة. وبالفعل، تبنت كبرى الجامعات الأميركية والأوروبية التي تدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها هذا المنهج وحصلت على نتائج أفضل بكثير من تدريس الفصحى منفصلة عن تدريس العامية، فقد أدرك الطالب الأجنبي أنه لا غبار عليه في المزج وأنه يستطيع أن يتحدث بالعامية في الصف بينما يكتب بالفصحى في الصف نفسه.
أما دراستي اللغوية عن المزج اللغوي، فقد أضافت بُعداً آخر لعملية الإنتاج اللغوي لم يحتوها كتاب بعدُ. كان عليّ أن أختار موضوعاً للبحث لرسالة الماجستير، ولم أفكر كثيراً؛ لأنني كنت أعرف ماذا أريد بالضبط، ما الأسباب التي تستدعي النوبي المصري للخلط بين النوبية والعربية إذا كان يتحدثهما الاثنين بالطلاقة نفسها؟ تراها الأسباب نفسها التي تستدعي الشخص الذي يتقن العربية والإنكليزية للخلط؟
نعم، هي الأسباب نفسها، وللإيضاح، إنها تتراوح بين العوامل نفسها التي تؤدي إلى الخلط اللغوي عند ثنائي اللغة. وبهذا يسقط الادعاء على من يمزج الكلمات العربية بالأجنبية بأنه حتماً -ولا بد- يريد بهذا، التباهي والتفاخر، ورغم أنه أحد الأسباب فإن هناك أسباباً أخرى لا نستطيع إغفالها ولا يسع المقال لذكرها جميعاً بكل أسف.
ومعنى هذا، أن الخلط اللغوي بين أبناء اللغة واقع لغوي أيضاً، شئنا أم أبينا. فأنا لا أتحدث عما يجب أن يكون، ولكني أتحدث عما هو بالفعل كائن: عدم استخدام العامة كلمة "جزمة" واستبدالها بكلمة "شوز" له مدلول ثقافي قبل أن يكون مدلولاً لغوياً على سبيل المثال لا الحصر.
ولذا، عندما أسأل طالب اللغة العربية في الصف: عملت إيه في الويكند؟ أكون قد حاكيت الواقع الذي سيراه لا محالة إما عبر التلفاز وإما من خلال زيارته الميدانية لإحدى الدول العربية!
أستطيع أن أكتب في هذا الأمر كثيراً، لكنني أؤثر القليل من الكلام على الكثير، وما يعنيني حقاً هو تصوير لواقع لغوي ملموس في الخارج وبالداخل.
وقبل أن أصل إلى نهاية ما أكتب، أحب أن أضيف أن استخدام الفصحى مع العامية مع بعض المفردات الأجنبية في الصف لدارس اللغة العربية ليس كل ما يحدث، فقد أدرك الباحثون والمدرسون أن أبناء العرب ممن يعيشون بالخارج أصبحوا يتحدثون عدة عاميات في الوقت نفسه حسب من يقابلون من جنسيات عربية مختلفة عنهم؛ فإذا قابل المصري أحد الشوام سيحييه بـ "كيفك"، بينما إذا رأي الشامي أحد المصريين سيقول له: "ازيّك"، وسيكون خلال حديثهما عدة محاولات من الطرفين لتدارك لهجة الآخر.
وكنت أجد غضاضة من استخدام أكثر من عامية واحدة في صفي وأنا أدرس اللغة العربية (أنا الذي أدرس الفصحى مع العامية مع الكلمات الأجنبية المدرجة على لسان العربي أجد غضاضة من استخدام أكثر من عامية في الصف!).
كان ظني أن الطلاب ربما تختلط عليهم الأمور، فكنت أطلب من مساعدتي الشامية ألا تقول "شو" بدلاً من "إيه" ولا "مرحباً" بدلاً من "أهلاً وسهلاً"، لكني بعد بعض تفكير وجدت أنني على خطأ، فالطالب ليس مجبَراً على مقابلة المصريين فقط، ومن حقه الاطلاع على أكثر من عامية إذا كان هذا ممكناً؛ ومن ثم جعلت التفاعل مع العاميات المتاحة مفتوحاً ومتاحاً للجميع.
نعود بـ"فلاش باك" للمشهد الدرامي بيني وبين والدي عندما كان عمري 16 عاماً، وأقول له: "ألو بابا" بدلاً من "ألو يا بابا"، ربما لم يكن والدي يعرف أنه كان يشهد واقعاً لغوياً عكف الدارسون عليه وخرجوا منه بنتائج مذهلة، معلهش.. الله يسامحك يا بابا!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.