بالقرب من مدينة دمشق وفي رمضان بـ"شقحب"، وهي قرية صغيرة قبلي دمشق على تخوم أرض حوران تبعد عن دمشق 37 كيلو متراً، وفيها كانت الوقعة الشهيرة بين المسلمين والتتار في رمضان عام 702هـ/1303م.
وكان سبب تلك الغزوة، هو استمرار الهجوم المغولي على أراضي المسلمين، وذلك بعد إسقاطهم حاضرة الخلافة العباسية "بغداد" عام 656هـ، ولم تبتلَ أمة الإسلام ببلوى أعظم من قدوم التتار، فقد كان التتار يرسلون إلى أمير المدينة أو الحامية يُعلمونه بقدومهم، فمن شدة خوف الجنود والناس من صنيعهم في غزواتهم، وانتقامهم الرهيب، يسلّم أميرها المدينة لهم دون قتال، وكان التتار وقتها تحت قيادة "قازان" حفيد "هولاكو" والذي أراد الاستيلاء على الأراضي المقدسة وتسليمها لحلفائه من الصليبيين، كما كان ينوي بسط نفوذه على إمارات الإسلام، ومدَّ حكمه عليها، وخاصة مع ضعف حكامها وتشرُّدِهم.
في القرنِ السابع الهجري، كانت فترة الخلافة العبّاسية الثانية ضعيفة جداً، وكان الخليفة العبّاسي فقط خليفةً داخل بغداد، أمَّا خارجها فلكُلٍ ولايتُهُ الخاصّة به، وكان الخليفة دُميةً أو رمزاً يُنادى به على المنابر أو يُدْعى لهُ مِنْ قَبَلِ عُلَمَائِه، علماء السلطنة والسلطان.
وفي هذه الفترة، تعرّضت بلادُ المُسلمين لحملات صليبية متكررة من جهة أوروبا؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين، أو على الأقل أخذ الأماكن المقدّسة لدى المسلمين كالقدس وما حولها، واستطاعت أن تحقق بعض الانتصارات وأن تُقيم في قلب العالم الإسلامي دُوَلاً؛ ومنها: إمارة الرُّهَا، وإمارة أنطاكية، وإمارة بيت المقدس، وإمارة طرابلس. وفي هذه الأثناء، ظهرت هذه الحركة المحارِبة للإسلام جهة الشرق من عند المغول بقيادة جينكيز خان، وزحفت تلك الجيوش بقيادة هولاكو نحو مدينة بغداد، عاصمة الخلافة العبّاسية. وبالفعل، استولت الجيوش الكافرة على تلك المدينة واحتلّتها عام 656هـ.
وسالت الدِّماء في العاصمة، واختلطت دماء المسلمين من أهل بغداد الكرام بأحبار الكتب التي سالت في البحور وحرقها أولئك الكُفَّار الطغاة الهمَج. وهذه الأوضاع بفضلٍ من الله، ما لبثت أن تغيَّرت، ثمَّ بسبب دولة المماليك التي كانت آنذاك تحكم مصر والشّام، والتي استطاعت أن تُكَّبِدَ الأعداء خسائر كبيرة بمعركة "عين جالوت" الشهيرة في رمضان 658هـ.
وتحطَّمت الأسطورة القائلة: إنَّ جيشَ المغول قوّة لا تُقْهَر
وحاولت الصليبية التي أسست بعض الدول -كما ذكرت آنفاً- أن تستميل المغول الذين ظهروا وبدأوا يُسيطرون على مناطق شاسعة من الخلافة العبّاسية، فحاول النصارى أن يستميلوا المغول إلى دينهم، والهدف من ذلك هو الحصول على حلفٍ ضدَّ أعدائهم المُسلمين بنظرهم الغاشم. وكان لهولاكو زوجة نصرانية، بسببها عاملَ الرعايا معاملةً حَسَنَة في مناطقه التي كانوا بها وكان يحكُمُها، ولمّا سيطر على بغداد عفا عن النصارى من أهلها وقتل المسلمين، وكذلك لمّا سيطر على دمشق فعل الأمر نفسه مع أهلها، حتَّى أصبح النصارى في دمشق يشربون الخمر علناً في رمضان مع الأسف أمام المسلمين ويَرُّشُون بها المسلمين ويحملون الصُلْبان ويُجْبِرونَ المسلمين على احترام تلك الصُلْبان رَمز الكفر والطغيان على احترامها!
وكان السبب في سير هذه الحملة المغولية الكافرة هو تعويض هزيمتهم في معركة "عين جالوت"، التي كان لمصرَ دورٌ هامٌّ فيها، وكانت سداً منيعاً أمام أوروبا وليس المغول فقط.
أسقطت دولة الخلافة العبّاسية في بغداد صحيح، لكنها لم تستطع الاستيلاء على بلادِ المُسلمين، ولكنّهم استطاعوا أن يحتلّوا الشّام وفلسطين وسلّموا القدس للنّصارى.
وحدثت مشاكل، وكان قازان ملكُ التتار قد اضطُرَّ إلى الذهاب جهة الصين وترك في مكانه قطلوشاه وهو الذي تولّى هذه الحملة.
وكانت الخلافة العبّاسية ساقطةً في بغداد ولكنّها لم تنتهِ بعد، وفي مصر كانت رمزاً موجوداً فيها لا حُكْمَ لها فعلياً.
وكان الخليفة في مصر رمزاً لبقاء دولة المماليك، وتولّى الخلافة المستنصر بالله، ومن ثمَّ الحاكم بأمرِ الله الأوّل، وليس الفاطمي الشهير في الدولة الفاطمية، ومن ثم جاء الخليفة المستكفي بالله من عام 707هـ إلى عام 736هـ.
في عهد هذا الخليفة الذي كان لا يملك من أمره شيئاً ولا حتّى بغداد، جرت هذه المعركة الشهيرة، وكان الحاكم الفعلي في مصر هو السلطان المملوكي النّاصر، وبدأ المغول يتحركون لتجديد حملاتهم ودخول بلاد الشام وإزالة الممماليك في مصر.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله رحمةً واسعةً- مُشارِكاً في هذه المعركة، وقام بمهمة جسيمة في هذا المجال، وكان بالشّام. وهنا تكمن الفكرة الرئيسية في هذه المعركة؛ وهي العلماء العاملون في نُصرة هذا الدين.
وفي تلك الفترة، زحف التتار نحو مصر، وانزعج الناس من هذا الأمر وخافوا، وبدأ القنوت في المساجد بأن يحمي الله بلاد الشّام ومصر من هذه الهمجية المغولية الكافرة التي كانت تأتيهم من الشرق، وبدأ البعض يهربون من تلك المناطق إلى مناطق أخى؛ ظناً منهم أنَّها آمنة، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في الأرض فساداً، وخاف النّاس خوفاً شديداً، وشرع المُثبِّطون لتخويف النّاس قائلين لهم: لا طاقة للمسلمين بجنود التتار، وزيّنوا لهم أن هؤلاء التتار بعد هزيمتهم في عين جالوت رجعوا أقوى مما كانوا عليه!
وملاحظة: بعد هزيمتهم، تظاهروا بأنّهم مسلمون، وبدأ علماء السلاطين الخائِنون يقولون: هؤلاء مسلمون ولا يجوز قتالهم!
وهنا، برز دور شيخنا شيخ الإسلام -رحمه الله- ابن تيمية، بصدقه وإخلاصه لله تعالى لا شريك له، صادّاً لتلك الشائعات والمرجفين، كان نموذجاً راقياً شهيداً عالماً عامِلاً، فيما كان آخرون يحرصون على سلامة أنفسهم وهواهم والفتنة بين النّاس وتخاذلهم مع قولة الحقِّ، فشتّان بين عالمٍ ربَّاني وعالمٍ سُلْطَانيٍ.
وأذكر موقفاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حدث مع قازان ملك التتار عند دخول الشّام، قام له شيخ الإسلام -رحمه الله- مع العلماء العاملين آنذاك رحمهم الله تعالى. وهنا -يا إخوة- يحتاج الشخص لإخلاصِ نيته لله، فمن يستطيع أن يقف أمام طاغيةٍ كافر معه جنوده إلّا العالِم العامل والمخلص في دينه وعمله؟
فلما احتلّ قازان دمشق، قام له شيخ الإسلام رحمه الله وذهب إليه مع العلماء بمكانِ إقامته، وأوقع الله في قلبِ قازان المهابة والخوف من شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وأدناهُ منه وقرّبهُ إليهِ وأمرَ بالطّعامِ له، فالكُلُّ أكلَ إلَّا شيخَ الإسلام.
فسأله قازان: لماذا لم تأكل؟
فقال شيخ الإسلام رحمه الله: لا آكل من طعامٍ نهبتموه من النّاس وأخذتموه من أشجار النّاس وطبختموه منها.
فهنا، قازان الذي تظاهر بأنَّهُ مسلم، طلب من شيخ الإسلام أن يدعو له.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: اللهم إن كنت تعلم أنه قاتل لتكون كلمتك وكلمة الإسلام هي العليا فأيده وانصره، وإن كان قاتل للدنيا والمُلك فافعل به ما تشاء.
وهنا، كان قازان يؤمّن وراء شيخ الإسلام رحمه الله والدعاء يقع عليه.
بالفعل، كان غبِيّاً طاغيةً، وكان الناس بجانب الشيخ والطاغية قازان يجمعون ثيابهم؛ خوفاً من أن يتطاير دم شيخ الإسلام عليهم بدعائه عليه، لكنه كان أحكم من أن يقتل شيخ الإسلام.
وبادئ ذي بدء وعوداً إلى المعركة، وقف شيخ الإسلام متصدياً للمرجفين واستطاع أن يُقنع الأمراء بالتصدِّي للتتار، ونودي في دمشق وسكن القُضاة وشجّعوا النّاس على الجهاد ضد الأعداء في المسجد الكبير بالجامع الأموي، ثم توجه شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى الجيش الذي جاء من مدينة حماة فاجتمع بهم، وأعلمهم باتفاق الأمراء في الشّام على أن يتصدوا لهذا العدو الغاشم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يحلف للنّاس بأنّ هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنّ ضعاف النفوس قالوا: كيف نُقاتل مسلمين؟!
فقال شيخ الإسلام رحمه الله للنَّاس: منصورون في هذه المرّة.
فقال له الأمراء على الجيوش: قُل إن شاء الله
فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً؛ أي ليس شكاً.
وكان يتأوّل في ذلك آياتٍ من كتابِ الله تعالى، ومنها قول الله تعالى: "ذَٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ".
ونجح شيخ الإسلام -رحمه الله- في التَّصدِّي للفِتْنَةِ الأولى، فهل ينجح شيخ الإسلام -رحمه الله- أيضاً في التصدي للفتنة الثانية، التي هي الأخطر وتكون في الدِّين؟
بعد أن واجه شيخ الإسلام -رحمه الله- الفتنة الأولى وهي فتنة النّاس، واجه فتنة أخرى وهي فتنة الدِّين.. فكيف واجهها؟
ظهرت عند المسلمين شُبُهات جديدة ومنها: كيف نُقاتل هؤلاء التتار وقد أعلنوا الإسلام؟! ولم يخرجوا على الإمام؟!
فهذه الشبهة كانت غريبة من نوعها، والأمر واضح من أنَّ هؤلاء يُريدون خداع المسلمين والسيطرة على ممتلكاتهم ومقدّساتهم.
فرَدّ شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- قائلاً: هؤلاء إن كانوا مسلمين فهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما.
وبالفعل، بهذا الموقف الحاسم، انجلت تلك الشبهة بين النّاس وزالت بينهم كاملة إلّا بعضاً منهم فذهب إليهم قائلاً: إذا رأيتموني مع التتار أقاتل بجانبهم ومعي مصحف على رأسي فاقتلوني.
ولمّا تكلّم هذا العالم الكبير في مثل هذا الموقف، تشجّع الناس لقتال التتار وعدم الخوف منهم،
وتمّ القضاء على هذه الفتنة الثانية. ولم يعمل على الوقوف عند هذا الأمر فقط؛ بل عمل أيضاً على القضاء على الفساد ومنع المعاصي وانتشارها بين النّاس.
وأقول دائماً: لا يمكن لأمة أن تنتصر على أعدائها وهي هالكةٌ في المعاصي وفي أوحال الذنوب والمهلكات، يقولُ الله -تعالى- قوله العظيم في كتابه الكريم: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".
فتقرب الناس في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان، من الله تعالى وبُعدهم عن معاصيه وأوحال المعصية، فامتلأت المدن بالنّاس والمجاهدين، وخرج من دمشق صبيحة يوم الخميس، وخرج معه كثيرٌ من النّاس؛ ليشهد القتال بنفسهِ، فتشكل جيش من أهل دمشق غير الجيش الأساسي، وكان معه العلماء الكبار، فظنّ الرعاع -أي العامّة- وهم يرون الشيخ خارجاً من دمشق، أنّ الشيخ هارب منها، فقالوا: أنت الذي منعتتنا من الهرب وها أنت ذا هاربٌ من البلد!
فلم يردَّ عليهم ومضى إلى ميدان المعركة مجاهداً بنفسه وماله وأعز ما يملك، رحمه الله تعالى رحمةً واسعة.
وشتّان بين عالمٍ ربَّانيٍ يُجاهد بنفسه وماله وأهله ومن يُحرّضون الطغاة ويكونون ذَنَباً لهم لكي يُفتوا لهم فتاوى على هواهم!
وثبت دخول رمضان يوم الجمعة، وصلّى النّاس التراويح وأصبح النّاس يوم الجمعة في خوفٍ وهمٍ ولا يعلمون ما خَبَرُ النّاس.
ووقفت الجيوش قريبة من قرية الكسوة في ريف دمشق، وجاء الجيش الشعبي المكوّن من أهل دمشق، فذهب شيخ الإسلام إلى السُلطان إلى مكان الجيش، وبدأ يحث الجيش ويبعث فيهم روح الجهاد والنصر، وطلب السلطان المملوكي أن يقف الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- بين جيش مصرَ الذي كان تحت قيادة السلطان المملوكي وكان جيش الشّام أيضاً موجوداً.
فقال له شيخ الإسلام: السُّنة أن يقف الشخص تحت راية قومه ونحن جئنا من الشّام، ولا نقف إلَّا معهم، واستأذن منه ورجع إلى جيش الشّام.
وقام شيخ الإسلام بإعلانِ فتوىً لهم قائلاً لهم: إن إفطاركم في هذا اليوم هو أفضلُ لكم من أجل القتال وهزيمة الكافرين شرَّ هزيمة. وأفطر أمام الجيش كي يُفطروا ولا يظنوا أنهم يأثمون إن أفطروا.
وكان السلطان الناصر في القلب ومعه الخليفة العبّاسي المستكفي بالله، الذي لجأ إلى مصر ومعهم القُضاة والعلماء.
واستطاع المغول أن يكسروا الميمنة التي هي في جيش المسلمين واستُشهد من استُشهد، وكادت المسألة تنزاح إلى جيش المغول. وبفضل الله تعالى سبحانه لا شريك له، ثم فضل العلماء العاملين، استطاعوا بعد ذلك أن يُلحقوا الهزائم بجيش الكافرين من جهة قلب الجيش والميسرة، والميمنة كانت مهزومة، فانطلقوا وأصبحت الغلبة لصالح المسلمين، إلى وقتٍ متأخر من اليوم؛ بل عندما طلع النهار فرّ جنود المغول وقتل المسلمون منهم عدداً كبيراً.
وفي اليوم الخامس من رمضان يوم الثلاثاء، دخل السلطان المملوكي إلى دمشق ومعه الخلِيفة العبّاسي بعد أن كانت المعركة منتهية والنصر للمسلمين، وزَيَّنَ الناس المدينةَ والأفراحُ في كل بيتٍ، وبقيت إلى ثالث أيّامِ العيد تلك الأفراح، ثم عاد السلطان والخليفة إلى مصر.
من الدروس المُستفادة والمهمة من هذه المعركة:
أولاً: إنَّ تكالب أعداءِ الأمّة عليها ليس سبباً كافياً لهزيمتها إلَّا إذا هُزِمت من داخلها.
ثانياً: لم يستطع الحِلف الصليبي تحقيق أهدافه في بلاد المُسلمين.
من نتائج هذه المعركة المباشرة بعد سقوط بغداد:
كبح جماح المغول وزحفهم نحو بلاد المسلمين.
تراجع أطماع الصليبيين.
تثبيت حكم المماليك في مصر.
من نتائج هذه المعركة المباشرة بعد سقوط بغداد أيضاً:
انحراف الولاة عن العلماء العاملين، وصار حولهم علماء سلاطين، فقط همهم هواهم، فيصبح الوالي الهم عنده الحصول على شرعية كاذبة بفتاوى من علماء السوء وأن ينجوا العلماء من بطش الولاة.
فنحن لا ينقصنا علماء يحفظون النصوص والفتوى؛ بل ينقصنا علماء يقولون الحقّ ولا يخشون في الله لومة لائم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.