مع نهاية عام 2012، بدأت قوى الأسد تنهارُ أمامَ المدِّ الثوري على مختلف بقاع سوريا، وبدأت ظاهرة المناطق المحررة التي ما لبثت أن تحوّلت لمناطق ساخنة معرّضة للقصف على مدار الـ24 ساعة، ثم تطوّرت للمرحلة الثانية بعد قصف الإبادة، وهي الإبادة بالتجويع!
مع بدء الـ2013، بدا أنّ النظام استوعب الضربة التي تعرّض لها في مقتَل، وبدأ يحاول تثقيل كفّته في ميزان القوى المسيطرة على الأرض، فبعد سياسة الأرض المحروقة بالقصف المستمر ومع حلول الشتاء، بدأت تظهر نتائجُ الحصار الذي فرضه على المدن الخارجة عن سيطرته في حمص وريف دمشق وغيرها من البقاع السورية، والتي تبيّنَ فيما بعد أنّها ناجحة لصالح النظام، الذي استمرَّ فيها بسياسة النفس الطويل حتّى فرّغ معظمها من ساكنيها بالباصات الخضر.
في تلك الأيام، كنت في غوطة دمشق الشرقية التي لا تزال محاصَرة إلى اليوم.
مرّةً قرأتُ قصّة قد تبدو أنّها رمزيّة لرجل يملك أطناناً من الذهب وقد حُبس معها في خزنةٍ كبيرة، حيثُ كتب على إحدى قطعها أنّه من أثرى رجال العالم وقد مات جوعاً، وقد رأيتُ ذلك فعلاً -لا بشكلٍ رمزي- في الغوطة!
في الغوطة -يا سادة- قد تملك الذهب والفضة، ولكن وفي الشتاءات الطويلة ستجوع كما غيرُك ممن لا يملكون إلا الحصير الذي ينامون عليه.
في الغوطة، ستنامُ جائعاً وأنت على يقين بأن مئات الألوف كذلك من مواطنيك في الغوطة قد ناموا جياعاً.
في الغوطة، هناك، وفي شتاء 2013-2014، أكلتُ خبزاً مصنوعاً من علف البقر، وأكلتُ تمراً مخصصاً للعجول، وشربتُ دواءً منتهي الصلاحية، ومرضتُ بالحمى التيفية وباليرقان وحُقِنتُ سيروماً وريدياً منتهي الصلاحية وقد كنت أيّما محظوظ لأنني حصلتُ عليه!
في الغوطة -يا سادة- وصل وزني لنحو 40 كيلو فقط، وفي الغوطة مشيت عشرات الكيلومترات لانعدام وجود البنزين.
في الغوطة، طبخت والدتي -وما زالت اليوم تطبخ- وجبتنا على الحطب الذي يزيد سعر الكيلو الواحد منه على دولار أميركي في منطقة تعتبر معدومة الدَّخل تماماً.
في الغوطة، استغنينا عن التدفئة بأن نتلحَّف قياماً وقعوداً.
في الغوطة، عشنا منذ نهاية 2012 بلا كهرباء ولا مياه نظيفة للشرب.
في الغوطة، وهي جنَّةٌ خضراء من أجمل ما يمكن لبشرٍ أن يرى، قطِعت أشجارٌ مثمرة لتدفِّئ عظاماً قد نخر فيها البرد وأنهكها الحصار.
في الغوطة، خافت ابنة أخي ذات الأعوام الثلاثة من قطعة الموز عندما رأتها لأول مرة في حياتها وقد بلغ سعر القطعة الواحدة 6 دولارات!
في الغوطة، رسم طلاب المدارس سندويتشاتهم على الصفحات وقد أعيَاهم الجوع وسقطوا مغمى عليهم في قاعات الدراسة.
في الغوطة وفي القرن العشرين، مات العديد من الأطفال بفعل سوء التغذية!
نعم.. الأطفال، الذين ما إن رأيت صورهم الخارجة من الغوطة حتى تتحطم إنسانيتك، تتحطم رجولتك وكرامتك!
أتخيّل اليوم كيف أنني وقفت عاجزاً آلاف المرات أمام حالاتٍ إنسانيةٍ حرجة وأحسست بالقهر الذي يكسر قلبي!
اليوم ومع ازدياد شدّة الحصار كسابق عهده، توافدت إليَّ ذكرياته الموجعة التي عشتها هناك، والتي لا يزال مئات آلاف البشر يعايشونها واقعاً أليماً يستيقظون عليه كل يوم.
في الغوطة، رأيتُ أجساداً قد تعرّى قفصها الصدري وبرز عمودها الفقري وتجحظت عيونها، وفي الغوطة ماتت سَحَر منذ أيام وماتَ عشراتُ "سحر" منذ بدء سنوات الحصار العجاف.
في الغوطة -يا سادة- أناسٌ من خيار البشر وأطهرهم، ضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل نيلِ حريّتهم، هناك فقط تتعلم كل دروس الحياة من أناسٍ كِرام، ثائرين بحق وصابرين حتى يملَّ الصبر منهم.
قد تنتهي كلماتي وقد تنتهي المعاجم ولا تبلغ وصفاً لمعاناتهم، وقد تنتهي مرة أخرى قبل أن تصف عظمتهم ومدى صبرهم وإيمانهم.
هم أناسٌ ليسوا كالبشر؛ بل هم أعظم وأنقى. نعم.. طالت المعركة وهم من الثلة الباقية في وجه الأسد وظلمه، على درب الحرية تخلى الكثيرون عن مواقعهم، تخلوا عن كفاحهم وصمودهم، ولكنّ أهل الغوطة ركبوا الدرب إلى آخره… هُدِّمَت بيوتهم واعتُقِلَ وقُتِلَ أولادهم وما زالوا على العهد فلا بدَّلوا ولا غيَّروا.
إن كانت الغوطة قد ابتُليت بظلم الأسد ومِن بعده بظلم الفصائل المقتتلة على أرضها، فإنني كلّي يقينٌ بأنّ لهؤلاء قومة أخرى يُعَزُّ فيها أهل الحقّ ويهلك فيها أهل الباطل مهما تعددت أوجههم وملّتهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.