"من أجل مجتمع مُثَقَفٍ عن حق".. هكذا بدأت يومي الملبد بالشقاء في التاسعة صباحاً أمام بوابة مجلس النواب، ليس لأنني أحد المهتمين بالشأن السياسي، أو ما يدور هناك من طبخ قوانين أو تسوية قرارات، وإنما كانت وجهتي هي الجمعية الجغرافية المصرية، ومن لا يعرفها فعليه التنقيب عن معلم من أبرز المعالم الجغرافية في العالم، والتي تحتل المركز الأول على مستوى الشرق الأوسط، والمركز الثالث بعد الجمعية الأوروبية والأميركية، فهذه الجمعية تراث عظيم نحتاج إلى اكتشاف ما فيه من مخطوطات نادرة وكتب قيمة قلما ما نجدها خارج هذا السور الحديدي الذي يعيقني الآن من الدخول.
في البداية دخلت مشرئباً على العسكري المتجهم دائماً في وجه المارين، وأخبرته عن وجهتي وهي الجمعية الجغرافية المصرية، وليس مجلس النواب، فلم ينطق ببنت شفة، وإنما أشار بأطراف أصابعه إلى بوابة حديدية صغيرة يقف أمامها رتل من العساكر المتمثلين في هيئة عصافير بيضاء أرهقتها الحياة، فلم تعد قادرة على الطيران، والتصقت أقدامها بالأرض.
ذهبت إلى السيد الأعلى رتبة فيهم، وأخبرته بضالتي، فأشار إلى أحد العساكر الذي أخرجناه من لعبته المفضلة له ولأصدقائه، وهي لعبة الأصنام التي لا تفارقهم طيلة فترة الخدمة، فأتى إلي شاب هزيل الجسد رث الهيئة يرتدي ملابس أبيه العسكرية التي لم يشأ أن يبيعها، كما باع وسام الشجاعة الذي حصل عليه في أعقاب الحرب القديمة "فهكذا تخيلت هذا المسكين بملابسه الواسعة".
دخلت إلى غرفة الأمن؛ حيث يجلس خلف المكتب الباهت المُبهت رجل في زي مدني يحمل فوق فمه شارب أحد المحاربين القدامى، وإلى جانبه كم هائل من بطاقات إثبات الهوية المُلقاة على المكتب، بادرني بالسؤال عن سبب مجيئي فأخبرته بوجهتي العريقة، فما منه أن أمرني أن أستريح، وأترك كل شيء معدني بحوزتي إلى جانب بطاقة هويتي التي سوف تنضم إلى رفيقاتها على المكتب.
مرت نصف ساعة حتى أتى رجل عظيم الجسم عريض المنكبين، بل عريض كل شيء، يرتدي نظارة شمسية لا يخلعها أبداً حتى داخل المكتب المظلم، فأخذني إلى داخل مبنى الجمعية، الذي بدوره يأخذ قطعة صغيرة من مبنى مجلس النواب الضخم، وكالعادة المتكررة أسجل بياناتي للمرة الثانية في مبنى الجمعية، وأخذ الرجل العظيم يتبين منّي سبب الزيارة الغريبة التي في اعتقادي أنها نادرة؛ لأن لا أحد يطرق باب هذا المبنى كثيراً، واستشعرت أيضاً من صيغة سؤاله: لماذا أتيت؟ أن أمي هي من تسأل عندما يأتي إلينا أحد أقاربنا غير المحببين.
أنا هنا لأروج للمكان؛ حيث أريد أن أقوم بحملة إعلامية شاملة عن الجمعية ومكانتها العالمية، وها أنا الآن هنا كي أقابل العلاقات العامة للمكان، أو رئيس الجمعية الذي الذي أعرف أنه من المستحيل أن ألقاه من أول مرة، فنظر الرجل إليّ كأنه سارح بخياله في أسراب من الشحارير تطير أمام نظارته السوداء التي لا يرى منها أو يُرى.
سوف تقابل الأستاذ أحمد وهو الأعلى منصباً هنا، فتبسمت له ولم يبتسم لي، التراب يملأ المكان يغطي الكتب والأرفف كأنه يحميها من ملاقاة العقول، ويبعدها عن الأيدي، هناك سجاد فاخر لكنه يعود إلى قرون مضت، ولم يُغسل على ما أعتقد منذ خروج الإنكليز من مصر، ولم يُكنس منذ خروج الثورة من عقول شباب يناير/كانون الثاني، وهذا إلى جانب اللوحات الكبيرة التي كاد التراب أن يمحي معالمها ومعالم من بداخلها من شخصيات بَرُزت ثم خبُتَت.
سألت صديقي المتجهم عن أستاذ أحمد، فرد ببرود تام أنه في قسم المخطوطات، وعندما دخلنا من باب القسم العريق هذا وجدت منظراً ثقافياً متحضراً يدل حقاً على المكانة التي أصبحت عليها الثقافة المصرية، ووجدت نفسي أردد: "من أجل مجتمع مثقف عن حق".
فكانت رائحة الطعمية "الفلافل" تدخل في أعماق رئتي لتشعرني بالانتماء إلى الوطن الحبيب والمتمركز في رائحة وطعم هذه الوجبة الصباحية الأصيلة، ولم يخرجني من هذا الحنين سوى صوت تجشؤ الأستاذ أحمد، ومن بعده سؤاله الجاف "أؤمر يا أستاذ؟".
لم أرد على أستاذ أحمد بسهولة، فقد صدمني حقاً لدرجة أني كدت أنفجر ضحكاً من منظر أصابعه التي تخرج من الشبشب البيتي الأخضر "أبو صباع"، وهذا الشبشب لديه ذكريات سيئة جداً في أغلب نفوس الشباب المصري في فترة التربية القويمة وحتى الآن، نعم هذا هو المسؤول الأرفع الذي أتيت لأقابله وأطرح عليه فكرتي، ماذا تتوقع أنت يا سيدي القارئ الآن منّي؟ وماذا عن حالتي المعنوية التي كانت في الصباح أملاً مأمولاً وعن حالتي الآن حيث أريد أن أهرب سريعاً من هذا المكان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.