عيد الهالوين، أو كما يسمونه بالعربية، عيد الهلع، احتفالات غير منطقية على الإطلاق بين الأصدقاء المحيطين بي، باعتباره آخر صيحة في موضة الاحتفالات اللزجة جداً التي يحرص الكثيرون على إمضاء إثبات حضور فيها، خصوصاً حينما تكون في مكان ما معروف له اسمه أو الـ"براند" الخاصة به كما يقولون، ممتلئ بالصخب والأزياء التنكرية لمصاصي الدماء أو الأموات الأحياء، وغيرهم من الشخصيات الأسطورية المثيرة جداً للرعب.
كعادتي في كل احتفال بأي عيد، بدايةً من العيدين الكبير والصغير انتهاءً بعيد تحرير سيناء، أقضي الوقت وحدي، خصوصاً لو كان اليوم إجازة رسمية، أتقوقع في منزلي الصغير، في حجرتي المتواضعة، وأقرر تمضيتها إما بالقراءة، أو بمشاهدة قدر المستطاع من الأفلام، بعض السلام النفسي، مع كوب من القهوة الزيادة، والسفر إلى بلاد العالم وأنا قابعة في مكاني، هذا هو جُل أمنياتي، لا أستطيع الامتزاج مع الصخب، أو الاختلاط بالناس، ليس لحبي الشديد في الوحدة، فمن يعرفني جيداً يدرك أن مخاوفي تتلخص في الظلمة، والموت وحيدة، ولو كان كل منهما أشياء يمكن تجسيدها مادياً، لكنت خرجت يوم عيد الهلع مرتدية أزياءهما خصيصاً، حتى ولو لم أكن أحب الاحتفال!
كنت أظن أنني أكثر الناس وحدة، غريبة في عالم يمتلئ بالغرباء، غرباء لا يرتبطون سوى بهواتفهم الذكية، الممتلئة بالتواصل الاجتماعي غير الواقعي بالمرة، لكنني أدركت أنني وحيدة بالاختيار؛ لأن الحياة دائماً ما تضعنا أمام اختيارات، اختيارات تتعلق بالحياة والمصير، وأنا قد اخترت أن أكون وحدي، على عكس كثير من الغرباء الذين لم يختاروا وحدتهم، لم يختاروا البقاء وحيدين، بل رحل عنهم الجميع طوعاً.
منذ بضع سنوات فحسب كنت واحدة من أولئك الغرباء الذين يرحل عنهم الجميع، كنت أبكي وحدتي بكاء أبي يوسف عليه السلام، وكأنما سأموت كمداً، ولن يكتشف أحد جثماني إلا بعد مرور أسبوع على الأقل؛ لأنني في النهاية لن أستطيع أن أتحمّل أن أكون هكذا، أجتر نفسي إلى الحمام في آلامي لأتناول حبوب مسكنة من حقيبة الإسعافات الأولية هناك، كنت أتألم كثيراً للفقد، أرتعب من فكرة خوض المعارك بـ"طولي"، وكلما فقدت عزيزاً كلما خبا جزء من روحي شيئاً فشيئاً، لكني لم أعبأ، ظل قلبي محطة مفتوحة لكل عابر سبيل، ينهل منها الصداقة والحب والشرف والنزاهة، لكنه يرحل نهايةً بعد أن يرتوي، للذهاب إلى وجهته التي لم أكنها قط، فقط ظننت أنني هي؛ لأكتشف نهايةً أنني محض استراحة للأرواح المعذبة، مكان لاستمداد الطاقة والسلام النفسي لاستكمال الرحلة، اكتشفت أنني أبعثر من روحي وأقتطع من قلبي أجزاء أنا أولى بها من غرباء الأرواح الآخرين الذين يرحلون نهايةً ويتركونني، حتى اتخذت القرار، لن أبقى وحيدة هكذا بعد اليوم!
بحثت عن الأسباب التي تجعل الغالبية يرحلون، هل أنا السبب؟ هل أنا مَن يدفع كل من حولي للوذ بالفرار من براثن علاقاتهم بي؟
عشت فترة ليست بقصيرة مؤمنة جداً أنه ليس من الطبيعي أن يبتعد كل هؤلاء لأسباب متعلقة بهم وليس بي، من غير المنطقي أن يرحل الكثيرون لمصادفة كونية تتمحور حول أنني أختار اختيارات خاطئة في كل مرة، فلربما ثمة سبب يتعلق بعِشرتي يجعلها مستحيلة، أو لربما أنا لست كافية، وبالفعل، ترسخ هذا الإيمان بداخلي، تغلغل في أواصري كالسم، وملأ قلبي بالألم، وأحشائي بالامتعاض الدائم، حتى جاء اليوم الذي أيقنت فيه أن كل أفكاري غير حقيقية؛ لأنه بالنهاية، اختيارك هو الذي سيحدد كيف يعاملك الناس!
"إننا نتقبل الحب الذي نظن أننا نستحقه"، جملة عابرة في أحد أفلامي المفضلة المقتبسة عن رواية، لكنها حقيقية لدرجة فسرت لي أغلب علاقاتي التي انتهت نهاية غير محمودة، كنت أتساءل دائماً: أين تكمن المشكلة الحقيقية في ابتعاد الناس، فيّ؟ نعم، اكتشفت الإجابة بعد أن دفعت من وقتي وعواطفي الثمن الباهظ، والأمر لا يتعلق بأنني غير كافية أو سيئة المعشر، بل بأنني كنت أقبل في حياتي حباً لا يكفيني، غير جدير بي؛ لأنني لم أظن أنني أستحق الحب بما يكفي أصلاً، فكنت أقنع بالنزر اليسير منه، أحوطه بعنايتي واهتمامي آملةً أن يكبر، لكنه لم يكبر قط؛ لأنه لم ينبع من داخلي، كنت أحاول باستماتة استمداده من الآخرين، ففقدت نفسي في البحث عنه، وأفنيت كثيراً من أجله، ولم أصل حتى لربعه؛ لأنني لم أحب نفسي من البداية وأتقبلها لأجد من يحبها لذاتها لا لشيء آخر، ولأجد من يعتبرني وجهته، ولست مرحلة فيها.
أدركت حينها أن البقاء وحيدة هو أكبر المكاسب الإنسانية التي يمكن أن يصل لها القلب، ريثما يؤمن بذاته ويدرك كُنه شخصه وقيمته، ويتصالح مع نفسه ويقبل فكرة وجوده بما هو عليه، البقاء وحيدة أحسن مليوني مرة من البقاء في علاقة ظاهرها حب وباطنها استغلال عاطفي ونهايتها الفراغ المطلق، البقاء وحيدة والتعود على خوض المعارك بذراعين عاريتين أفضل بكثير من التفاف الناس حولك ليشاهدوا ماذا تفعل لا ليدعموك، أدركت أن الخوف من الفقد لا يوازي فقد الذات بحق، وأن أشباح الهالوين ومصاصي دمائه أشد خطورة على الإنسان؛ لأن الأشباح التي تطاردنا لا تنتمي بالضرورة لبشر، بل من الممكن جداً أن تكون متعلقاً بأرواحنا بشدة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.