الحياة اختيار

أدركت متأخرة أن شادي رحل ولن يعود، وأن من بعده مات الرجال وُولد رجال سحرة يجيدون التنبؤ بضحايا المستقبل، رجال ودعوا البكاء في سن الرابعة؛ لأن الذكور لا يبكون في وطني، وحدها النساء يشقين بغدرهم، وخياناتهم، وقسوتهم، وتجاهلهم، واستهتارهم، وحتى بحبهم الذي لا يعرف المساومة، ويقبل فقط بالخضوع ثمناً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/31 الساعة 02:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/31 الساعة 02:27 بتوقيت غرينتش

لطالما آمنت أن الحياة اختيار، أن تكون أو لا تكون، وكل منا في هذه الحياة اختار أن يكون صورة لمبادئه ومكنوناته التي مهما داراها عن أعين الناس سنين وسنين ظهرت في يوم ما، مهما ارتدى الناس الأقنعة يأتي فيه يوم نصادفهم على غفلة منهم، ومن الحب كي نرى الروح المشوهة التي تجاهلناها ومضينا نجملها باسم الحب، باسم العشرة وكل السنين، ما زلت لا أستطيع أن أصدق أني هنا.

على مفترق الطريق وحيدة أرثي ما كان يوماً مستقبلاً، فأضحى ماضياً أليماً أخذ من العمر زهرته، أتدري كم تساوي السنون في عمر المرأة؟ وكم تساوي خيبة أربع سنوات كان من المفترض أن تنتهي بالزواج؟

كان من المفترض بعد أن سقطت وتعثرت عشرات المرات؛ كي تجدني كل مرة بجانبك أن تظل بجانبي ولا تكون جباناً، لا أدري كيف جعلت منك ذلك الرجل الكبير لتفاجأني يوماً أنك أصغر من أخي المراهق الوفي لحبه الصغير.

كنت ما زلت صغيرة آنذاك أطأ تلك الأرض أول مرة فظننتها مباركة؛ لأنني التقيتك فارساً نبيلاً رومانسياً يهديني الورد، فما ظننت أن شوكك قاتل، أهديتني شيكولاتة مرة ما سرا معي سمّها إلى بعد أن رحلت لأموت كلما مررت من دروب كانت يوماً لنا نركض فيها، ونمازح الحياة كأن الغد ملك لنا وحدنا.

لم أعلم حينها أن حبنا كان تلك القطة الصغيرة التي صادفناها يوماً مريضة أردنا إنقاذها، لكن الطبيب أخبرنا حينها أنه لا أمل، وأن الحب الصغير الذي يواجه المطبات والحفر وحده لا بد من أن يضعف ويبدأ احتضاره باكراً، حتى في غيابك المفاجئ منحتك الأعذار حتى استنزفت وبقيت وحدي في باب الدار أنتظر عودة شادي، فبعد فيروز كنت أنا أيضاً أنتظر عودته روحاً صافية لا تعرف للغدر طريقاً.

أدركت متأخرة أن شادي رحل ولن يعود، وأن من بعده مات الرجال وُولد رجال سحرة يجيدون التنبؤ بضحايا المستقبل، رجال ودعوا البكاء في سن الرابعة؛ لأن الذكور لا يبكون في وطني، وحدها النساء يشقين بغدرهم، وخياناتهم، وقسوتهم، وتجاهلهم، واستهتارهم، وحتى بحبهم الذي لا يعرف المساومة، ويقبل فقط بالخضوع ثمناً.

وحدها النساء يبكين وراء الأبواب وفي عتمة الليل، حين يسدل النور ستارته ويجعل البؤساء يتخبطون في الظلام بين: ما ليته كان وبين ما كان وبين ما ليته لم يكن، نضيع ونضيع ونضيع؛ لنحطّ الرحال من جديد في مكان بين البعيد والقريب.

قريباً وبعيداً منّي.. كنت أرى يونان يلعب في تلك الحديقة الكبيرة التي بنيتها لي من الوهم، كان ابننا الذي مات قبل أن يولد يلوح لي من بعيد كأنه يواسيني.

الفقد هو أن ترحل وتظل أشياؤك شاهدة على الغياب حية فيّ.. وليس أن تغادرني جباناً جابهت معه الحياة وحين ابتسمت له تركني على الناصية أتسول منه الحب؛ كي يخبرني بجبروت الطغاة أنه نسي منذ سنين، وحاول أن يحبني ثانية، لكن لم يستطع.. هل أضحك أم أبكي؟ أم هما معاً؟

كيف نسيت وأنت الذي أخبرتني البارحة أني قوتك ونجاحك، وأنك قريباً ستزور الأهل؛ كي تمسك يدي علناً، ولا نهرب من عيون الناس التي حفظتنا وصرت وحدي أهرب منها في هذه المدينة الصغيرة التي تسألني كل يوم عنك، فما عساي أقول؟ لقد نجح في حياته فقرر رميي كلباس قديم.. لا هو لم يرمِني بل وضعني في الدولاب؛ كي أكون صديقة.

عذراً أنا لا أصادق غير الرجال، وليس أشباههم وأنصافهم الذين ما إن اكتشفوا حقارتهم لبسوا قناع تأنيب الضمير ودموع التماسيح، قال: لم أرِد يوماً أن أجرحك، لكن الحب انتهى في غضون ساعة.

وقالت روحي: يا ليتك كبرت لتصير الرجل الذي رسمتك في خيالي، سامحتك فبعرفنا لا يحاسب الصبيان الصغار على هفواتهم.

من السذاجة أن تكون تحتضر على يد الآخر وما زلت تلتمس له الغفران من قلب يلفظ آخر نفحات الحياة؛ ليغادر إلى عالم القسوة واللامبالاة، عالم لا مكان فيه للمشاعر، فالكل هناك عانى ما يكفيه وقرر نبذ تفاهات التضحية لأجل الغير.

ليس تفاهة أن تضحي، لكن من التفاهة أن تضحي لأجل من سيقبل بيعك مقابل لا شيء، القسوة هي أن ترى قلبك يلفظ آخر أنفاسه فتمر بجانبه دون أن تلتفت ولا تمنحه صدقة.

الحنين هو أن ترى طيف الماضي الجميل يجري وراء مستقبل آخر ليس لك فيه وجود فتبتسم وتمضي، الألم هو أن يمر الحب بجانبك، ولا يتعرف عليك ويكمل طريقه.

الصدفة هي أن تهجر كل أحلامك وآمالك في الحياة كي تجلس في ركن بعيداً خالٍ مظلم، وحين تفتح عينك وتجدها بجانبك تبتسم.

الجبروت هو أن تتخلى عن نفسك في لحظة جنون وتيهان بين ما يمليه المنطق والعقل وبين ما يريده القلب بشدة.

الأمل هو الابتسامة التي يمنحك إياها عابر سبيل في لحظة السقوط في الهاوية.

الوحدة القاتلة هي أن يكون الجميع حولك ولا أحد فيهم يستطيع سماع صراخ الأرواح المتنازعة داخلك.

الآه هي أن أكتب الآن وأرغم نفسي على عدم مشاطرتها معك أنت الذي رأيتني كل شيء ولا شيء.. في كل ساعات المخاض كنت أصرخ بك: بالله عليك ما لي قدرة على تحمل هذا الفقدان، لكنك كنت أقسى من أن تحن على كلينا، يوماً ما سيموت الحنين مصطحباً معه الألم والأمل، يوماً ما سيصل بي الحب الكبير إلى مرحلة الغفران.

وأنا يا سيدي لا أسامح غير الموتى.. سأسامحك بعد أن أكون أقمت تأبيناً يليق بك في قلبي حملتك فيه كما يحمل فرعون كل الممتلكات وأنت حينها لن يكون لك عندي سوى بقايا لذكريات طفلة لم يعد لها وجود الآن، وهذا هو الوداع الموجع يا سيدي.. أن أودع نفسي مع رحيلك، وأضطر إلى أن أتبرأ منها؛ لأنها تحمل بين عروقها رائحتك.

جميل أن تكون صورتك لا تزال تحضر أمامي في هذه الكتابات، لكن الجميل فعلاً هو أن غصّتي بدأت تتلاشى، فأنا لا أعيش مع تأثير الطعنات سوى لحظة واحدة، تلك اللحظة التي تفرق الموت عن الحياة، تفرق الليل عن النهار، تفرقني أنا عن أنت؛ لأقول: يا ليتك ظللت جميلاً كما أتيت، ويا ليتني احتفظت بك صورة من بعيد لإنسان كان أروع من يكون.. يا ليتك لم تكن!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد