جاء في رسالة بعث بها الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الأنصار: "علّموا أولادكم العوم والفروسية، ورؤُوهم ما سار من المثل وما حسن من الشعر".
تعد الأمثال الشعبية مخزوناً تراثياً من أعرق فنون القول لدى البشرية جمعاء، تتراكم فيه تجارب الشعوب وخبراتها بكل تنوعاتها وتناقضاتها، إنها فن قديم، يعده البعض حكمة الشعوب وينبوعها الذي لا ينضب، يحمل تراث أجيال، يصاغ انطلاقاً من تجارب وخبرات وحكمة شعبية رسختها الشفاه الشعبية نتاجاً جماعياً يتناقله الناس شفاهاً أو كتابة، بعضها أفرزته حكاية شعبية أو نكتة لا يعرف قائلها، وبعضها الآخر مقتبس عن الفصحى مع ما يصحب هذا الاقتباس من تحريف وتعديل، ما يؤكد قدم هذا التراث؛ إذ إن نشأة المثل غير واضحة، فليس هناك مَن يجزم بأمر في تاريخ نشأته ومكانه، والأرجح أن يكون نشوء المثل قد ترافق مع ذيوع الكتابة.
والأمثال هي حكمة المجتمعات ومرآتها، وهي المتنفس الوحيد لمشاكلهم والمعبر عن همومهم كما هي بمثابة معايير أخلاقية يضعها عقلاء القوم لتكون ضابطاً سلوكياً ومنهجاً أخلاقياً لعامته وخاصته، يتناقلها الخلف عن السلف جيلاً بعد جيل، فتظل محفورة في الذاكرة الجمعية تعبر عن كفاح أبنائه عبر سنين حياتهم سرائها وضرائها، نعيمها وبؤسها، يسرها وعسرها، خيرها وشرها، كما هي أصدق شيء يتحدث عن أخلاق الأمة وتفكيرها وعقليتها وعاداتها، ويصور المجتمع وحياته وشعوره أتم تصوير فهي صورة للحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية، فبواسطة الأمثال ندرك أفكار الشعب وتصوراته وآراءه ومعتقداته ودرجة ارتقائه أو تخلفه، فالمثل تعبير عن فلسفة في الحياة وعصارة مختلف التجارب التي وسمت العنصر البشري في اتصاله وتواصله بمختلف مناحي الحياة ومكوناتها.
اهتم الفلاسفة أيضاً بالأمثال الشعبية، حتى إنهم تباروا في وصفها، فقال أرسطو: "كأن الأمثال متخلفات حكم قديمة أدركها الخراب، فسلمت هي من بين تلك الحكم لمتانتها وجزالة ألفاظها"، وقال الفارابي: "المثل هو ما ترضاه العامّة والخاصّة في لفظه ومعناه حتى ابتذلوه فيما بينهم وقنعوا به"، وقال ابن الأثير مشيراً إلى أهميتها: "الحاجة إليها شديدة، وذلك أن العرب لم تصغ الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء"، ومنهم قال: "إذا أردت أن تعرف ثقافة شعب فانظر إلى أمثاله فهي تمثل فلسفة الجماهير".
وقديماً قالت العرب: "الأمثال مصابيح الكلام"، وهو ما جعل المثل يحتل مكانة هامة ضمن باقي مكونات الأدب الشعبي، فهو يشكل صورته البارزة الحية التي تتميز بإيجاز لفظه وبساطة تركيبه وسهولة نطقه.
ما هو تعريف المثل؟ وما هي خصائصه؟
لغة: الأمثال جمع مثل، وهو مأخوذ من قولنا: هذا مثل الشيء ومِثله، كما تقول: شَبهه، وشِبهه؛ لأن الأصل فيه التشبيه.
وللعرب أمثال جيدة خلفوها لنا تدل على عقليتهم أكثر مما يدل عليها الشعر والقصص، ولعل سبب ذلك يعود إلى أن المثل يوافق مزاجهم العقلي، وهو النظر الجزئي الموضعي لا الكلي الشامل. والمثل لا يستدعي إحاطة بالعلم أو شؤون الحياة.
يقول الأبشيهي في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف": "أعلم أن الأمثال من أشرف ما وصل به اللبيب العاقل خطابه، وحلّى بجواهره كتابه، وقد نطق كتاب الله تعالى وهو أشرف الكتب المنزلة بكثير منها، ولم يخلُ كلام سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، وهو أفصح العرب لساناً وأكملهم بياناً، ومن محكم آياته قوله عز وجل: "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل"، "ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون"، "وكلاً ضربنا له الأمثال"، "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون".
أما ابن منظور في لسان العرب "كتعريف لغوي" يقول: الشيء الذي يُضرَب لشيء مثلاً فيُجعَل مِثْلَه، وأحد التعريفات المميزة هي تعريف أحمد إبن عبد ربه القرطبي الأندلسي الذي يقول: وشيُ الكلام وجوهر اللّفظ، وحَلْيُ المعاني، التي تخيَّرتها العرب، ونطَقَ بها كلُّ زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشِّعر، وأشرفُ من الخطابة، لم يسِرْ شيء مسيرها، ولا عمَّ عُمُومها، حتى قيل: أسْيَرُ من مَثَل، والزَّمخشري يقول إن الأمثال هي: قُصارى فصاحة العرب ، وجوامع كلِمِها ، ونوادر حِكَمِها، وبلاغتها التي أعربت بها عن القرائح السليمة حيث أوجزت اللفظ فأشبعت المعنى، وقصَّرَت العبارة فأطالت المغزى، وكنَّت فأغنت عن الإفصاح، أما السيوطي فيعرفه في كتابه "شرح الفصيح" بقوله إنه "جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجه الظاهر إلى أشباهه من المعاني فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها. واستجيز ومضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام".
ونجد العسكري في كتابه "جمهرة الأمثال" يعرفه إذ يقول: "ولما عرفت العرب الأمثال تتصرف في أكثر وجوه الكلام وتدخل في جل أساليب القول أخرجوا في أوقاتها من الألفاظ؛ ليخف استعمالها ويسهل تداولها فهي من أجل الكلام ونبله وأشرفه وأفضله لقلة ألفاظها وكثرة معانيها ويسير مؤنتها على المتكلم من كثير عنايتها وجسيم عائداتها".
ويقول إبراهيم النظام: "يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام، هي: إيجاز اللفظة، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكلام"، وهذه التعريفات تشمل وتجمل مبلغ الأمثال في حضارتنا وثقافتنا العربية، وفي ثقافتنا الشعبية، إنها العبارة الفنية السائرة الموجزة التي تصاغ لتصوير موقف أو حادثة لتستخلص خبرة إنسانية يمكن استعادتها في حلّة أخرى مشابهة لها.
المستشرق الألماني "زولهايم" في دراسته عن "الأمثال العربية القديمة" يقول بأن الأمثال هي الأنغام الصغيرة للشعوب "وإذا عرفنا أن الألمان مشهورون بالموسيقى الكلاسيكية واهتمامهم بها يفوق اهتمامهم بأي أمر آخر، نفهم إذن، من سياق ثقافته، ما يقصده بالأنغام وكم هي راقية ومهمة، ينعكس فيها الشعور والتفكير وعادات الأفراد، وتقاليدهم على وجه العموم.
ويذهب مالينوفسكي إلى القول بأنه من الخطأ أن ينظر إلى الأمثال على أنها شكل من أشكال الفلكولور، بل هي حكم وقصص وانتقاد لاذع للحياة وتعبير شعبي يعكس الخلفية التاريخية وخبرة الإنسان التي اكتسبها من خلال ممارسته للحياة نفسها، ولعل التركيز من أهم السمات الطاغية عليها؛ لهذه الأسباب أرى أن المثل الشعبي الذي لا تتعدى كلماته أصابع اليد الواحدة مفتاحاً بيد المستشرقين لفهم الآخرين وسبر أغوار المجتمعات الشرقية ومعرفة مظاهر حياتها فمكنهم هذا الاهتمام بالثقافات الشعبية من دراسة أحوال الشعوب ومعرفة طرق التأثير فيها.
منذ العصر الجاهلي شهدت الثقافة العربية اهتماماً كبيراً بجميع تراث الأمثال في اللغة العربية، فقد كانت الأمثال حكمة العرب في الجاهلية، حيث سجل الشعراء ذلك في أشعارهم كما تبدّى الاهتمام بها في العصر الإسلامي الأول من خلال إعجاب الرسول عليه الصلاة والسلام بالذين نطقوا بالحكمة، وتفوهوا بالمثل، وقد ردد الكثير منها في بعض أحاديثه الشريفة، ولا سيما المأثورة منها عن النبي لقمان عليه السلام.
خصائص الأمثال
هناك عدد من الخصائص التي تميز الأمثال عن سائر الكلام منها ما يلي:
الإيجاز من خصائص الأمثال: وهو التعبير عن الفكرة في أضيق حيز ممكن، وقد يتم هذا التعبير في كلمتين "الجوع كافر"، "أصلك فعلك"، "الصبر مر"، أو التعبير عن الواقع الإنساني "إذا كبر ابنك خاوِيه".
إصابة المعنى: حيث إن المثل لا يقال إلا في المواقف المشابهة للأحداث التي قيل فيها المثل، ومن هنا قيل: "لكل مقام مقال".
الأصالة: فهي عربية المنشأ، مع أنها ليست بلفظها الفصيح، ذلك لتعلق الشعب بالقيم والأخلاق العربية الأصيلة؛ حيث اكتسبت وتكتسب محتواها تاريخياً واجتماعياً، وأخذوا بعضها بلفظه، أو بمعانيه من الدين الإسلامي، أو من الأدب العربي القديم "صغير القوم خادمهم".
الواقعية: فهي تمتاز بواقعيتها، ذلك لتميز الحياة المجتمعية الريفية العربية عموماً بالواقعية.
البلاغة: وتمتاز الأمثلة كذلك بإيجاز اللفظ وتركيزه، وبإصابة المعنى ودقته وبعد المغزى.
الموسيقى: لا تخلو الأمثال من الموسيقى اللفظية، ففيها جرس موسيقي وتناغم بين ألفاظها وتناسق بين الجمل، وتجانس بين الأحرف، والجمل والتراكيب، وتأتي موسيقى الأمثال إما على السجع والفاصل، أو من اختيارها للأحرف المتجانسة ضمن الكلمات، والكلمات المتوافقة ضمن الجمل.
الإحساس: تعكس بصدق مشاعر المجتمع، وأحاسيسه وآماله، وآلامه وأفراحه وأحزانه، وتفكيره وفلسفته وحكمته ومن خلالها نستكشف آراءه في مختلف شؤون الحياة وموقفه منها ونظرته إلى الكون، وتفسيره لمظاهره.
الجانب التربوي والتعليمي للأمثال الشعبية
يمكن توضيح الجانب التربوي والتعليمي للأمثال الشعبية من خلال ما يلي:
جمل قصيرة تقال في موقف ما إما للتحذير من الوقوع في نفس الخطأ، أو للتحفيز على تعلم شيء ما مثل "اقنع تشبـع".
بعض الأمثال تدعو إلى تعديل السلوك السيئ، مثل: "من حفر حفرة لأخيه سقط فيها".
المثل الشعبي قد يستعمل لأغراض تعليمية، لحث الناس على تعلم شيء معين، أو للحث على مواصلة عملية التعلم والبحث عن كل جديد، ويدعو إلى التفكير والتحليل والتطبيق على مواقف جديدة أو مماثلة، وهذه تعد من مهارات التفكير الناقد.
ومن الأمثال الشعبية التي تدعو للتعليم والتعلم "صنعة في اليد أمان من الفقر".
أمثال شعبية تدعو لتنمية التفكير الناقد
يوجد الكثير من الأمثال الشعبية التي تدعو إلى التفكير وإعمال العقل والمنطق؛ للوصول إلى حل المشكلات والقضايا التي تواجه الإنسان، والتي تدعو أيضاً إلى البحث عن المعلومات والبيانات وتحليلها وتفسيرها وتقييمها، والوصول من خلالها إلى حلول للمشكلات التي تواجهه، سواء كانت هذه المشكلات ذاتية أو اجتماعية، أو تخص البيئة المحيطة بالفرد، ومنها "إذا كان المتحدث مجنون يكون المستمع عاقل"، هذا المثل يدعو إلى التعقل وتدبر الأمور، ومعرفة مصادر المعلومات، وفهم وتفسير وتحليل ما يقال قبل قيامه بفرض الفروض وإصدار الأحكام.
أمثال شعبية تدعو لتنمية القيم
إذا كان هناك جزء من الأمثال يدعو إلى تنمية التفكير الناقد وأنواع التفكير العلمي الأخرى، فإن السواد الأعظم من الأمثال يدعو إلى تنمية القيم على اختلاف أنواعها، مثل القيم الأخلاقية، والقيم الاقتصادية، والقيم الدينية، والقيم الاجتماعية، وهذه بعض الأمثلة التي تدعو إلى تنمية أنواع مختلفة من القيم، مثل:
القيم الاقتصادية
وهى الأمثال الشعبية التي تدعو في مجملها إلى العمل، والمحافظة على الثروات، وتقدير قيمة العمل، والإنتاج والوعي بالتنمية الاقتصادية، مثل:
"اللي ما عنده عمل يكاري له جمل"، "من زرع في بلد غير بلده لا له ولا لولده"، "مد رجلك على قد لحافك".
القيم الأخلاقية
"اقنع تشبع"، "الوعد عهد"، "أدّب ولدك لو زعلت أمه"، "اعدل العوجة ولو في يوم فرحها"، "اللي تسمع كلام أبوها كل الناس يحبوها"، في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق".
القيم الاجتماعية
وأثّرت الأمثال في العلاقات الاجتماعية في حقل الضيافة، فانقسم الضيوف على أقسام: ضيف محبوب، وضيف مشؤوم، وضيف خفيف، وآخر ثقيل، فصاغت الأمثال هذه التصنيفات في حكمتها المعروفة؛ ليتثقف بها الناس، وينتبه مَنْ كان ذا عقل رشيد، وعلى بيّنة من الأمر:
"ضيف المودة ما بيروح حتى يبري اللحاف والمخدة"، "يا بخت من زار وخفف"، "الضيف المشؤوم بعد الأكل بيقوم".
أما عن الجيرة والجيران:
"الجار قبل الدار"، "جار والجار ولو جار".
كما كرست الأمثال كذلك قيمة المرأة في المجتمع:
"اللي عند أمه بالبيت خبزته مدهونة بزيت"، "البنت الحرة مثل الذهب بالجرة"، "بنت مليحة ولا صبي فضيحة"، "بعد الأم أحفر وطم".
لا شك أن للأمثال أثراً كبيراً في حياة الناس على اختلاف ثقافاتهم ومعارفهم، ويشكل اهتمام الناس بالأمثال حقيقة حضارية تشمل الأمم كافة فنجدهم يحتفون بها احتفاءً كبيراً، في مجال الكتابة والحديث، يعلقونها مكتوبة بأجمل الخطوط في بيوتهم ومحلاتهم التجارية، تجذب الانتباه وتبعث على الارتياح، فهي الباعثة على العمل، ومقومة للسلوك الإنساني، وعلامات مضيئة للاهتداء بها في معترك الحياة، بما تتضمنه من توجيه أو تنبيه، إنها حياة الشعوب الخالدة وعلامة من علامات تميزها ونبع من ينابيع كرامتها، فهي من فنون القول التي تعبر عن عقل الأمة وفكرها وثقافتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.