منذ نشأتها حملت نظرية الذكاءات المتعددة لهوارد غاردنر اختلافاً كبيراً عما قبلها من نظريات للذكاء؛ فلم يعد يدور الحديث حول "إلى أي حد أنت ذكي؟"؛ بل تحول إلى "في أي مجال أنت ذكي؟ فقد ضمّن غاردنر في نظريته 8 ذكاءات ادّعى انفصالها هي: الذكاء اللفظي/اللغوي- الذكاء المنطقي/الرياضي- الذكاء البصري/المكاني- الذكاء الجسمي/الحركي- الذكاء الموسيقي- الذكاء الطبيعي- الذكاء التفاعلي- الذكاء الشخصي.
وسرعان ما أُدمِجت تطبيقات نظرية الذكاءات المتعددة في حجرات الدراسة، وساهمت في تقديم طرق متعددة للتعلم وإظهار الفهم من خلال تعدد مداخلها التدريسية وتعدد طرق التقويم التي يمكن أن تُستخدم لقياس مدى فهم التلميذ لما تعلمه، مما أسهم في التعامل مع الفروق الفردية بين البشر والتي كان التربويون يتحدثون عنها دوماً دون أن يكلفوا أنفسهم عناء محاولة التعامل الصحيح معها، لكن وعلى الرغم من الترحيب الذي قوبلت به النظرية في الأوساط التربوية وبين المعلمين الجادين، فهناك الكثير من النقد الذي تلقته النظرية من العديد من التربويين.
وبمراجعتي ما كتبه العديد من الباحثين، يمكن تحديد النقد الذي وُجِّه للنظرية وردّ غاردنر عليه في الآتي:
· النظرية ليست جديدة: يؤكد نقاد نظرية الذكاءات المتعددة أن عمل غاردنر ليس جديداً؛ لأن ما يسميه ذكاءات هو أساساً قدرات دائماً ما أقر بها المعلمون وعلماء النفس المعرفيون أُعيد تصنيفها على أنها ذكاءات مستقلة، وفي ذلك يشير مورغان (Morgan, 1996) إلى طريقة غاردنر في وصف طبيعة كل ذكاء بمصطلحات مثل قدرات وحساسيات ومهارات كدليل على أن الجديد بالنظرية حقيقةً هو مسألة دلالات ألفاظ بدلاً من كونها تفكيراً جديداً عن تصور متعدد للذكاء.
كما أنها تشبه عملاً سابقاً لثرستون الذي كان سابقاً للقول بأن عاملاً واحداً لا يمكن أن يُفسر تعقد النشاط العقلي البشري. إضافة لذلك، يرى بعض المعلمين المتمرسين أن مدخل الذكاءات المتعددة القائم على تنوع الأنشطة المدرسية هو طريقة تدريس قديمة أُعيد تقديمها تحت اسم آخر، والكثير من المعلمين رعوا ذكاءات تلاميذهم قبل ظهور تلك النظرية.
· النظرية وسّعت مفهوم الذكاء إلى ما فوق المنفعة: يرد غاردنر أن التعريف الضيق للذكاء كمساوِ للأداء المدرسي هو ببساطة تعريف ضيق للغاية. وفي رؤيته تكون نظرية الذكاءات المتعددة عن الملامح العقلية والمعرفية للعقل البشري.
· مواهب وليست ذكاءات: يعتقد المنظِّرون المعارضون لنظرية الذكاءات المتعددة أن تلك المفاهيم، مثل القدرة الجسمية/الحركية أو الموسيقية، تمثل مواهب فردية؛ ومن ثم فالأفضل أن تُسمى موهبة بدلاً من ذكاء. بينما يرفض غاردنر التفرقة بين الموهبة والذكاء، ويرى أن ما نسميه ذكاءً في لغتنا العامية ما هو إلا مجموعة معينة من المواهب في المجال اللغوي أو المجال المنطقي/الرياضي.
· تخصصات وليست ذكاءات: ذكاءات غاردنر هي مثل تخصصات أو فروع معرفية، ويرد غاردنر بأن كل تخصص يعتمد على استخدام أكثر من ذكاء، كما يذكر أحمد أوزي (د.ت) أن معظم الأدوار التي ننجزها في ثقافتنا هي نتاج مزيج من الذكاءات في معظم الأحيان، فلكي تكون عازفاً موسيقياً بارعاً على الكمان لا يكفي أن يكون لديك ذكاء موسيقي وإنما أن تكون لديك لياقة بدنية أيضاً، والمهندس الناجح ينبغي أن يكون لديه بدرجات متفاوتة قدرات مكانية ورياضية/منطقية وجسمية وتفاعلية.
· أساليب تعلُّم (فسيولوجية) وليست ذكاءات: يذكر النقاد أن ذكاءات غاردنر هي أساليب معرفية، بينما يرد غاردنر بأن أساليب التعلم Learning Styles هي الطرق التي يباشر بها الأفراد العمل. وبالطبع، فإن هذه الفكرة تختلف عن الذكاءات المتعددة التي تفترض أننا نستجيب بطرق مختلفة لأنواع مختلفة من المحتوى، فإذا كنت تفترض أن الطفل هو متعلم بصري وأن هذا هو أسلوبه في التعلم، فإن ذلك يختلف عن أن هذا الطفل يمكنه تصور الأشياء مكانياً؛ ذلك أن ذكاءه البصري/المكاني مرتفع، ويمكننا أن نعول على هذه القوة إذا احتجنا عندما نريد أن ندرس لهذا الطفل شيئاً جديداً. كما أشارت دراسة دان وآخرين (Dunn et al., 2001) إلى أن هناك فرقاً واضحاً بين الذكاءات المتعددة وأساليب التعلم.
· النظرية لا تشجع المعلمين على أن يُعلموا المعرفة الرئيسية "المجموعة العامة من الحقائق الأساسية التي يحتاج كل فرد لمعرفتها". يرد غاردنر أنه نصير قوي لتعلم فروع المعرفة، وإنما هو يحتج فقط ضد مفهوم أن هناك طريقاً واحداً لتعلم أي فرع من تلك الفروع.
· النظرية متعارضة مع العامل العام: يشير مورغان (Morgan, 1996) إلى أنه على الرغم من أن التعرف على القدرات المختلفة وتطوير نظرية تدعم العوامل الكثيرة للذكاء قد أصبحا مساهمة هامة تُحسب لغاردنر في ميدان علم النفس، إضافة إلى أن نظرية الذكاءات المتعددة قد أثبتت كونها مفيدة للمدارس والمدرسين وأنها قد تساعد في تفسير لماذا لا يؤدي التلاميذ جيداً في الاختبارات المعيارية- فإن هذا في رأي مورغان لا يُجيز الرفض الكامل للعامل العام (g).
وأرى أنه من الأفضل استخدام المنهج العلمي ونتائج التحليل العاملي لذكاءات غاردنر؛ للتأكد من وجود أو عدم وجود عامل عام يربط ذكاءات غاردنر بدلاً من الرفض غير المبرر الذي يبديه غاردنر من خلال كتاباته لوجود العامل العام، والاستنكار غير المبرر أيضاً الذي يبديه مؤيدو نظرية العامل العام لرفض غاردنر له.
· ذكاءات غاردنر ليست مستقلة على النحو الذي أورده؛ بل يمكن جمعها وتصنيفها تحت تصنيفات أشمل. فمثلاً: قام روبرت سيلوستر (Sylwester, 1995) بترتيب ذكاءات غاردنر السبعة الأولى تحت ثلاثة تصنيفات عامة -أراها أشبه بمفهوم العوامل الطائفية- وهي: الزمن والتتابع (الذكاء اللغوي- الذكاء الموسيقي- الذكاء المنطقي/الرياضي)، والفراغ والمكان (الذكاء المكاني- الذكاء الجسمي/الحركي)، والإدراك الشخصي والاجتماعي (الذكاء التفاعلي- الذكاء الشخصي).
بينما يرى غاردنر (Gardner, 2003) أنه فقط يرغب في إعادة التفكير في العلاقة بين الذكاءين الموسيقي والمكاني؛ وذلك استناداً إلى ما ذكره تورف وغاردنر (Torff and Gardner, 1999, p.140) من وجود نتائج لدراسات توضح أن التدريب على الموسيقى يمكن أن يحسّن الأداء في مهام مكانية معينة، وأنه في حالة تكرار هذه البيانات فإنها ستُضعف الادعاء باستقلالية الذكاءين المكاني والموسيقي.
وهنا، أرى أنه في حالة ثبوت وجود ارتباط قوي بين ذكاءين من ذكاءات غاردنر، فإن هذا يعني ببساطةٍ، وجود عامل طائفي يجمعهما، وليس الحل هو إلغاء التمييز بين ذكاءين سبق تقديم الدليل على استقلالهما، وأن الاعتراف بوجود العوامل الطائفية في هذه الحالة لا يُضعف من نظرية غاردنر ولا يهدمها، ولكنه يعد تطويراً لها وتماشياً مع النتائج العلمية المتواترة بدلاً من الالتفاف حول تلك النتائج أو رفضها دون أسباب منطقية، ويكفي نظرية غاردنر إسهامها في الاهتمام بالعوامل الخاصة وتحديدها تحديداً دقيقاً على أسس منطقية وعلمية، حتى لو ثبت عدم استقلالية تلك العوامل. وعلى كل، فإن هذا الموضوع بحاجة للمزيد والمزيد من البحث.
· كيف يمكن تفسير السلوك دون القيام بعملية ضبط تجريبية: حيث يرى النقاد أن غاردنر لم يسعَ إلى إعداد اختبارات دقيقة لقياس القدرات التي اعتبرها ذكاءات؛ حيث إن اختبارات الذكاء التقليدية تقيس قدرات محدودة إذا ما قورنت بذكاءاته؛ ومن ثم فإن نظريته وصفية إلى حد بعيد وبحاجة إلى القياس الكمي لدرجات تلك الذكاءات. وإن كان موريس (Morris, 2003) يتفق مع غاردنر في عدم الاهتمام بقياس الذكاءات المتعددة، فإن غاردنر يذكر في بعض كتاباته (ترجمة محمد العقدة، 1997، ص 396) أنه ليس هناك سبب من حيث المبدأ يمنع من تصميم أدوات قياس عادلة للذكاء، أي بطرق تقيس الذكاءات مباشرة.
· النظرية ليست محددة أو معرفة جيداً: يعتقد نقاد النظرية أنها تفتقر إلى الدقة والإحكام اللذين لا بد من توافرهما للعلم الحقيقي، حيث يدّعي غاردنر أنه سيكون مستحيلاً ضمان قائمة دقيقة من الذكاءات؛ لأن عدد الذكاءات مستمر في الزيادة طالما انطبقت المحكات على القدرات المرشحة لضمها إلى قائمة الذكاءات.
· النظرية منطمرة ثقافياً: فهي جزء لا يتجزأ من الثقافة، حيث تركز نظرية الذكاءات المتعددة على أن ثقافة الفرد تلعب دوراً هاماً في تحديد قوى وعيوب ذكاءات الفرد، كما تؤثر الأنشطة التي تركز عليها ثقافة الفرد في كيفية تطوير ذكاءاته، فكونك ذا ذكاء جسمي/حركي متطور قد يصنع منك لاعب كرة قدم في ثقافة ما، بينما يمكن أن تصبح راقص باليه في ثقافة أخرى. والرد على ذلك يكون بأن الذكاء يظهر عندما يواجه الفرد مهمة غير مألوفة في بيئة غريبة.
· النظرية غير عملية: استخدام مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس يُعد مثالياً مثل اليوتوبيا وغير عملي، حيث يواجه المعلمون فصولاً مزدحمة ونقصاً في الموارد تجعل التطبيق صعباً. ويرد غاردنر بأنه لعل من أهم الخرافات -على حد تعبيره- التي تُنتقد نظرية الذكاءات بسببها هي أنه إذا كان هناك ثمانية ذكاءات، فإننا يجب أن نكون قادرين على أن ندرس بثماني طرق وأن نقيس بثمانية اختبارات قوى التلاميذ في كل تلك النطاقات. ويوضح غاردنر أنه من غير المقبول أن نقول إن كل شيء يجب أن يُدرَّس بثماني طرق، فهذا ليس مقصد نظرية الذكاءات المتعددة، فغايته هي إدراك أن أي موضوع من أي فرع من فروع المعرفة يمكن أن يُدرَّس بأكثر من طريقة.
· إنها تلغي المقاييس القومية: الانتشار الواسع لمدخل الذكاءات المتعددة في التدريس سيجعل مقارنة أو تصنيف مهارات وقدرات التلاميذ في فصول الدراسة صعباً؛ ذلك أن نظرية الذكاءات تتيح للتلميذ التعبير عما تعلمه من خلال أي أسلوب تقويم من الأساليب التي تتماشى مع الذكاءات المختلفة، فكيف يمكن مقارنة قدرات تلاميذ استخدمت أساليب تقويم مختلفة للحكم على أدائهم؟
· النظرية تتعارض مع التفسيرات الوراثية والبيئية لطبيعة الذكاء: ويرد غاردنر أن نظريته معنيّة أكثر بالتفاعل بين علم الوراثة والبيئة في فهم الذكاء، وليس بالنظرة الأحادية لكل من الوراثة والبيئة على حدة. كما تذكر كارليسون-بيكرينغ (Carlson- Pickering, 2001) أن النقطة الحرجة ليست أن هؤلاء الأفراد كان لديهم قدرة خاصة عند الميلاد، أو أن المجتمع نشَّأها لدرجة معينة، النقطة المحورية هي أنهم طوروا ذكاءاتهم القوية الفريدة لأبعد من المستوى الذي وُلدوا به.
· لم تحاول النظرية الإجابة عن سؤال هام وأساسي وهو: لماذا يكون بعض الناس أكثر ذكاءً من آخرين؟ وذلك كما يتضح من سلوكهم في حل المشكلات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.