للاطلاع على الجزء الأول اضغط هنا
حنكة القدامى تقطر من صوتها وهي تدخل المطبخ آخر الممر، تنبه على المجتمعات بجوار شواحن هواتفهم " محدش يسيب موبايله من الوارد الجديد، هيتسرق على طول و تبدأوا سنة كحلي".
أمسكت بذيل الحصان الطويل من ورائها وجذبته وهي تعنفها " يخرب عقلك شعرك ده تلميه هتاخدي حتة عين"، استدارت سريعاً و بدل أن تلعن ،جرأتها وتطفلها، قالت" هيحصل ايه ما البنات كلهم لطاف"، تفرست في وجهها والفستان الوردي وسألتها أليست هي من كانت توزع كتبها عند السلم ظهراً، وصلت بهم العشاء في "124"؟ ثم استفسرت عن سر انتقالها للمبنى فهي تراها للمرة الأولى.
أجابت -بفخر لا تعرف مصدره- "لا انا لسة سنة اولى". شهقت وهي تزيح الملقاط من خلف أذنها " أولى ايه! انتوا مش جايين اول امبارح لحقتي تعرفي كل العيال دي امتى؟"، " لا ما عشان 6 أكتوبر أجازة فقعدنا مع بعض وكده" ضربت كفاً بكف وهي تنظر لباقي الفتيات، يحاولن القرار هل سيأكلن من عشاء المدينة أم لا، " مفروض تكوني بتعيطي يا بنتي لسه ومبتخرجيش من أوضتك، انا أول مرة أشوف أولى فرحانة ومنطلقة كده"، أجابت بحيرة وبساطة أنه "أعمل كده ليه أنا جاية أتعلم وأستفيد من التجربة".
سألت عن اسمها وبلدها ثم هزت رأسها وقالت " لأ مش عادي خالص متبقيش قلقانة، و تعملي علاقات بسرعة جداَ، معنى كده انك جاية جاهزة بالى الناس بتتعلمه في أربع سنين، هستنى اشوفك فعلاً وانتى ماشية اتغيرتي إزاى".
(5)
"أَجَارَتَنَا إِنا غَريباِن هَا هُنا وكُلُ غَرِيبِ للغريبِ نَِسيبْ"
في تقرير تليفزيوني سأل المعدّ سؤالَه الأهم "انتو بتسمّوا نفسكم إيه؟ مستقلات ولا مغتربات ولا باحثات عن الحرية، بتفضلوا يتقال عليكم إيه؟".
وفي تقرير آخر، قبل أربع سنوات، أجابت "فوزية فرنيني" عما تراه نساء المغرب بحسم: "أنا لا أمثل نساء المغرب، أنا أمثل نفسي، وأتحدث بلساني. إن أردت رأى المغربيات اذهبي لعمل استطلاع رأى لهن".
علمتني فوزية درساً للعمر، فلا أجسر أن أتحدث بلسان آلاف الفتيات اللاتي تغربن للدراسة أو للعمل داخل القُطر وخارجه، لا أعرف ماذا يحببن جميعاً؟ أو مم يهربن، وما يحاربن.
إلا أن شرفات المدينة الجامعية وسلالمها المهجورة تعرف -عن يقين- أحلامهن التي غرّبّها نصف درجة في امتحان، أو طموح لا تقول بجوازه مدينتها الصغيرة.
تعرف الشجارات الطويلة التي خاضتها كي تحتفظ لنفسها بحق تقرير المصير، يمكن لغرف الإدارة الخالية ليلاً أن تحكي عن دموع الصغيرات في أولى ليالٍ بعيدة عن المنزل، عن الخوف الذي يرتدينه في شوارع المدينة الجديدة ومن ليلها تحديداً.
ويسهل على غرف المساكن المتواضعة، الخالية إلا من الأسِرّة البالية، أن تميز رائحة المرض الذي لا يداويه أحد، وخطط مواجهة الجيوب الفارغة قبل أوانها، وتحسن أن تردد عن ظهر قلب، حذرهنّ أن يعرف الناس أنهن هنا بلا أهل.
حين جلست (س) على كرسي المطبخ في شقة العباسية، وحكت ما فعله بها أخوها حتى سافرت للعمل؛ تُحصل مطعمها وإيجار السكن بالكاد، اختتمت دموعها بتكرار: "إن نفسها ترتاح، بس الحمد لله".
ولما جاء الدور على (أ) في لعبة الصراحة، قالت: " بقول لكم إيه الشغل والنجاح والاستقلال المادي حلو آه، بس لو كنا لقيناه وإحنا في بيوتنا، كان إيه اللي يجبرنا ع البهدلة دي".
وفي الوقت الذي لم تكفّ فيه (ف) مازحةً عن ذكر اعتيادها سفر أهلها، كانت ليالي امتحانات الطب الطويلة تجعلنا نعتاد مكالمات الفيديو التي تجريها إلى عدة قارات، حتى على الطعام.
لا أعرف مَن الذي استيقظ صباحاً وقرر أن التريند الجديد لشعب السوشيال ميديا سيكون "السترونج إندبندنت وومن" ولم يمت الإفيه حتى اليوم.
لكني، في مواجهته، أردد دوماً قول صديقتي الجدعة: "هو فيه حد يلاقي دلع وما يتدلعش!".
(6)
"قضَى اللُه بالخللِ الَعبقري الذي يَجعلُ المَرء مكتملاً حين يُكَْسَرُ مُنكَسِراً حين يَكْمُلُ مُسْتَقْتِلاً حين يُجْرَحْ"
كانت تتوقع إجابة مختلفة عن سؤالها: "يعني إيه أكتر حاجة بتقوي وانتي عايشة لوحدك؟"، لم أرِد إحباطها لكن فك وتركيب هذا الدولاب الخشبي الضخم كان أهم انتصاراتي الأخيرة، كما حمل حقائب السفر لعدة أدوار دون استعانة بأحد.
يمكنني أن أحصل على جوائز عالمية وأكشف الفساد وأعود لأمي في نهاية الليل، لكن هل كنت سأعرف كيف أؤجر شقة وحدي، مروراً بمرحلة السماسرة اللعينة، لو لم أرحل؟
كان العشاء في المدينة ليلة الخميس، وإفطار الجمعة في السكن يتحول إلى قصص ناجيات من الحرب.
لا أنسى صوتها وهي تحكي كيف تخلصت من الذكر الذي لاك سيرتها في المنطقة كلها، ولا نظرة الهم في العين التي اضطرت للبحث عن سكن في شوارع بين السرايات ليلة اختبار البكالوريوس، وهي تحمل كل أمتعتها بعدما طردت!
وعَرَفَنَا جيران المنيرة بأننا الفتيات اللاتي جرين في الشارع بعد الثانية صباحاً؛ لأن رفيقتنا مات أبوها وعليها أن تسافر فوراً لتراه، ثم لم نفلح في دفع يتمها بنظرة أخيرة؛ رغم ما حاولنا!
بتُّ وحدي في المسكن في اليوم الذي صفعني فيه "خنزير في الشارع"، وكذلك في اليوم الذي كان فيه عامل التوصيل سكراناً ومصراً على أن يجرب حظه معي، بكيت طويلاً… لكني غادرت إلى عملي واختباري في الصباح.
في كل مرة تأتي فيها وافدة جديدة من مدينتنا لتغترب، تكرر الأم طلبها أن أكون معها وأدلها إذا احتاجت مساعدة حتى تعتاد نمط الحياة وحيدة.
وفي كل مرة أود أن أخبرهن بالحقيقة في إشفاق" ستعتاد وتشد عودها؛ حين تصدق أنها أقرب عون تحتاجه، وأن عليها أن تدبر شؤونها -وحيدة- منذ اليوم".
(7)
"بعض المعارك في خسرانها شرف من عاد منتصراً من مثلها انهزم"
كررت للبائع طلبها بأنها تريد شيئاً متيناً فحسب ولا تعنيها الكماليات "ده استخدام شخصي هو مش جهاز عروسة"، ضحكتا طوال الطريق على غيظ البائع وترديده "إنهم مش سهلين"، مرت السيدة تبيع سويت سوري وقلم كحل ميبيلين وماسك غارنييه الأصلي بتاع العرائس "خديه لجهازك يا أبلة"، فغرقتا في الضحك من جديد، سألتها: " إلا قولي لي بجد انتي في جهازك برضه هتعملي لنا قائمة أولويات، وخطة شرائية على excel sheet؟".
متعلقة بكتف صديقتها الأطول تتفادى زحام "العتبة"، بدأت التفكير في الأشياء التي لزمتها للعيش طيلة السنوات الماضية، استغلت الفراغ بجانب الباب المغلق ووضعت الكتاب من يدها وجلست فوقه، أخرجت هاتفها وفتحت ملف وأخذت في التدوين.
"يا بنتي هننزل قومي" نبهها الصوت أن عليها أن تراجع جيداً الأساسيات في أدوات المطبخ، الذي يمثل نقطة ضعفها.
تصعد السلم المزدحم وهي تحتضن الحقائب البلاستيكية السوداء لانقطاع يدها، وتتحدث بحماسة عن اكتشافها "سرير ودولاب ووحدة أدراج صغيرة، ومكتب بكرسيين وكنبة – أو اتنين لو في مقدرة – ترابيزة متعددة الاستخدام ودولاب للمطبخ والأدوات الكهربائية.. بس يا ستي هو ده الجهاز.. آه ومكتبة طبعاً وتبقى معلقة عشان المساحة لو صغيرة".
يلتفت باعة الفاكهة، المنتشرون أسفل السلم، على الضحكة العالية (انتي مسخرة بتهزري طبعاً – لا ههزر ليه – طب فين الرفايع يا فالحة؟ – بطانيتين وملايتين وسجادتين وستارتين نقش أندلسي وخط عربي حاجة شبهي – تتسع ابتسامتها وتلمع عيناها بنظرة الفرح إياها – طب قولي لأمك الكلام ده، وبعدين فين حاجات المطبخ يا تحفة _ كتبتها هوريهالك في البيت بس أقارنها باللي عندي وأراجعها).
– أنا قلت مش هتسكتي وقلبت صراع مالي ومدن وكوسولونية واحتلال – أولاً اسمه رأسمالي والمدينة الكوزموبوليتانية دي أي متعددة الثقافات والبوست كولونيال ده ملوش علاقة بالموضوع انتي قصدك الهيمنة؛ قيم الثقافة الغالبة يعني. تتدخل السيدة بجوارهما: لا استني فهميني اللى قلتيه ده دى حاجات جديدة في الجهاز؟ يضحكن ثلاثتهن، وتكمل العجوز حديثها "يعني انتي معاكيش وهتدخلي على أوضة واحدة، وهتشتري الحاجات الأفرنجي دي كلها، بلا خيبة".
على طبق الفيشار -حلو آخر الشهر- وكوب الشاي بلبن، ضحكتا حتى البكاء عند تذكر السيدة. قالت: تستاهلي بعد الهري اللي قلتيه، قال ملايتين وحلتين، دي قلة حبنا وحصيرة حبنا يا مسعودي!
تغير القناة وتقول: "أنا راضية ضميرك، انتي بقالك كام سنة متغربة، بتحتاجي إيه كل سنة لو بتفرشي شقة، أو بتستخدمي إيه من فرشها غير كده؟" تهتف بها أن تعود فهناك فيلم لجوني ديب، ثم تتذكر أن تجيب "ما هو اللي هيدفع أنا هجيب لوحدي، وبعدين أنا هتبهدل في الجواز بردو". تحمل الكوب الفارغ وتقف في استسلام "انتي مقتنعة باللي بتقوليه؟ بعد كل اللي شفتيه أفكارك ما اتغيرتش؟ لسه عايزة إلى الناس عايزاه وهو إلى هيسعدك؟".
ترد بجدية، وتتحرك لتنهي الحوار: "انتي اللي ما بتتغيريش مهما اتخبطتي، دي مش ثورة هي كمان، حتى لو انتي صح؛ الناس ما اتعودتش على كده، كبري دماغك عشان ترتاحي… أقول لك…. خليكي هتعيشي طول عمرك تدوري على القضية والحق، يا فقر!".
فكرت في كلامها، وفي كلام أمها، وفي وجه أبيها المشفق عليها من ضنك الحياة: "لم أعد أعرف يا أبي إن كانت هذه الشحططة تستحق الأثمان التي دُفِعَتْ، لكنّ أمي ربتني أن أكن جدعة وأخت رجال".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.