"حُلو …مُر"، يبدو اسماً شاعرياً يليق بغلاف كتاب، ولكنه مجرد اسم يطلقه السودانيون على مشروب يُعَمِّرَ الموائد في رمضان، تصنعه السيدات في بيوتهن من حبوب الذرة، يعرضنه للشمس بعد تنسيمه بالماء وتغطيته أياماً؛ لتنبت البذور قليلاً، ثم يُطحن ليكون عجينة، ويُخبز على صاج حار فيحترق بسرعة ثم يحتفظون به ويُخرجونه لينقع ويكون جاهزاً للشرب عند الإفطار. يعتقد السودانيون أن له فوائد جمة، وأنه الوحيد القادر على إطفاء ظمأ صومهم الطويل، خاصة في الصيف.
هكذا حكت صديقتي عن مشروبها المفضل، عندما أنهت قصتها في جلسة نسائية عابرة، قالت إن هذا المشروب يشبه العلاقات الانسانية، تبدأ مشوقة وسرعان ما تحترق، تروي ظمأ الروح ولكنها تترك طعماً مُراً، تحمل متناقضات عدة، ورغم ذلك لا يملّها الناس، يعتقد البعض أنها بسيطة ومع التعمق فيها يكتشفون كمّ هي معقدة وغير مفهومة، أكثر ما يفسدها تمنّي الغرق في حلاوتها للأبد وعدم تقبل مُرِّها.
قالت إحداهن إن هذا الوصف يليق بالحب، ذلك المجهول الذي لا تفهمه، قابلت على مر سنواتها الاثنتين والثلاثين رجالاً كثر، جميعهم فُتِنواً بجمالها وثقافتها وطيب كلامها في البداية ثم لم تفلح في الدخول بأي علاقة جدية ناجحة، رغم وقوعها في الحب عدة مرات، وفي كل مرة كانت تعتقد أنها أحبّت ذلك الرجل وأن حياتها ستتوقف من دونه، تتعذب وتبكي عدة أشهر، تحاول نسيان ما حدث ثم تجتازه وتواصل حياتها..أنهت حديثها قائلةً إنها أيقنت أن الحب بيت هش ننسجه في خيالنا فقط، اعتبرته مُراً خالصاً رغم ما يثار دوماً عن جماله!
أما صاحبتنا المتزوجة، أم 3 أبناء، والتي تخطت الثلاثين بأعوام قليلة، فقالت: "الزواج يناسبه هذا التشبيه أكثر من الحب".
بدا على ملامحنا الانتباه، فأكملت: "المسألة ليست في عيوب ومميزات لدى الرجل أو المرأة، فجميعاً لدينا عيوبنا وميزاتنا. ولكن كل شخص لديه القَدر نفسه من الجمال والقبح في الوقت ذاته، التحدي هنا هو كيف نتعامل مع عيوب الشريك؟".
طالعتْنا فوجدت الاهتمام متواصلاً، فزادت :"دعوني أشرح لكم خطتي، أنا مؤمنة بالحُلو المُر؛ لذا أسعى دوماً إلى أن أشرب كل نقطة حلوة عند زوجي كلما استطعت، ألهث من أجل تلك اللحظة، أفتش عنها حتى أجدها، ولو ضقت ذرعاً بمُرِّه وهذا حتماً يحدث، أسترجع تلك اللحظات التي خزنتها فتعينني. ليس هذا فقط؛ بل أحافظ على أن أجد لنفسي عالمي بعيداً عنه، لا لأشكوه أو أهجره؛ بل للبحث عن الحلو داخلي أنا؛ ليسعفني على تحمل مُره، والرجل لا يريد إلا قليلاً من الاهتمام وكثيراً من النعومة".
أذهلتني كلماتها، بدت خطة مُحكمة، ولكنني لا أعتقد أن النساء جميعاً لديهن تلك المهارة؛ لأنها تحتاج إلى طاقة وذكاء وربما دهاء لتنجح، فمن لهؤلاء اللاتي لا يُجِدْنَ فنون المناورة؟!
تبادلنا النظرات، رفعنا كؤوس الشاي التي فقدت حرارتها عكس حديثنا، وبدأت لغة العيون تغنينا عن الكلمات، وكأن كل واحدة فينا بدأت تراجع حياتها، تضع ذاكرتها في اختبار صادق لتكتشف مساحة الحلو قياساً إلى المُر في دفتر يومياتها.
أسرّت لي جارتي بهمس أنها جاءت إلى الجلسة لتشكو من زوجها الذي لا يكف عن التذمر والغضب والرغبة في الفرار من المنزل للمقهى أو للنوم.. قالت إنها بحاجة إلى التفكير في عيوبها ولكنها الآن تراجع نفسها قليلاً .. فربما لديه ما يقوله أيضاً عن طبيعتها الجامدة وصراخها الدائم واهتمامها الزائد بأطفالهما أكثر من أي شيء آخر!
حاولت إحداهن الخروج من تلك الحالة فقالت بعيون زائغة ونظرة هاربة: "لست متزوجة، ولم يكن هذا اختياري، لكنني أعتقد أن هذا الوصف دقيق للغاية؛ لأنه يُترِجم كل علاقاتنا في الحياة مع الأهل، الأبناء، الأصدقاء حتى زملاء العمل وعاملِي النظافة في الشوارع، ولكن لكل شخص مساحته في احتمال المُرِ أو شرب العسل المُصَفى، أو تقاسمهما معاً وحسب كل علاقة ومدى قوتها ومتانتها يكون الاختيار والجهد.
ولكي تكون القسمة عادلة وهذا ما لا يحدث دوماً، علينا أن نسأل أنفسنا متى آخر مرة قابلنا ملاكاً يعيش بيننا، ومتى آخر محاولة لإقناع أنفسنا بأننا أخطأنا في أمر ما؟! وهل نعطي على قدر ما نأخذ أم أننا استمرأنا عطاء الآخرين فصرنا نعتبر عطاءهم حقاً فيما لم نشغل أنفسنا يوماً بسؤال مهم وهو: ماذا ينتظرون منا الآن؟!
وبالإجابة عن تلك الأسئلة سيعرف كل منا نفسه؛ هل هو قادر على تحمّل اكتشاف مواطن إنسانيته وكونه بشراً يُخطئ ويصيب أم أنه ركّب للتو أجنحة بيضاء وصار منزَّهاً عن كل شر؟!".
وأكملت في هدوءٍ أسئلتها: "هل ندرك أن لدينا طباعنا التي يرفضها آخرون أيضاً ولكنهم يتعاملون معها، أم أن مرآتنا صارت بأبعادٍ غير حقيقية تضخم عيوب غيرنا فتجعلها مارداً وتقزم مساوئنا فنراها شفافة كأنها لم تكن!".
لا أعرف لماذا شعرت بأن الجلسة تغير مسارها إلى حالة من الاستسلام، والإحباط، فقلت: حسناً، أتعرفون ماهو أخطر ما يمكن أن يحدث بعد ابتلاع أي طرف كثيراً من المُر؟!
كن غارقات في استرجاع ماضيهن وكأنهن يعُدن بالزمن للوراء، أجبتُ من دون انتظار: هو اعتياد مذاق المرارة، وبمعنى آخر هو التوقف عن التذوق، فهذا يجعل طعم العلقم في حلوقنا يدوم طويلاً.
يبدو أن كلامي وجد جمهوره، فقالت الجالسة بالقرب من الباب وكأنها اختارت هذا المكان لتفر سريعاً في حال أي طارئ: "كما أن الركون للمُر مشكلة، فغن الغرق في لوم أنفسنا والآخرين أكثر خطورة، فلكلِّ خطوة في حياتنا دور، ولكل علاقة أثرها، ربما نندم على الدخول في بعضها ونتمنى أن لو طال الأمد في أخرى. ولكن كما لكل حكاية بداية فلها نقطة ذروة حتى لو جاءت على غير هوانا، فربما نعتقد أننا نعيش أجمل أيامنا فيما نكتشف بعد وقت طويل أنها لم تكن سوى خدعة، مزحة طويلة قاسية، ولكنها تركت شقوقها غائرة بداخلنا!
والأهم من اكتشافنا هذه الحقيقة، أن نتفهم حدوثها حتى من دون التعمق في الأسباب؛ لنستطيع أن نتقبلها سريعاً، فالأخطر أن نبقى عالقين هناك بين الصدمة والأمل، فيما نفتقد الهمة للحياة.
تذكرت وقتها قصةً عن جحا، هي من التراث، أوردتها الكاتبة التركية أليف شافاق في روايتها "حليب أسود"، تقول الحكاية :"في أحد الأيّام، كان جُحا يعمل في حقل بطّيخ، عندما توقف ليرتاح قليلاً تحت شجرة جوز. همسَت له نفسه وهو ينظر إلى أعلى: (ربّي، إنّني حقاً لا أفهم أساليبك في الحياة. لماذا جعلتَ هذا البطّيخ الضخم، ينمو قريباً من الأرض على أغصان نحيفة وضعيفة، وتُعلّق هذا الجوز الصغير القليل على أغصانٍ ثخينة؟ أما كان أجدى لو عكستَ الأمر؟).
وفورَ انتهائِه من حديث النفس هذا، هبّت ريحٌ قويّة وتساقط بعض الجوز من الشجرة على رأسه. فصرخَ جُحا من الألم. وهكذا عرف خطأه، وهوَ يُدلّك رأسه من أثر الكدمات. قال: (إلهي أرجو أن تسامح لساني السليط، الآن فقط عرفتُ لماذا لم تُدلِّ البطيخَ من الأشجار، فلو أنك وضعتَ البطّيخ مكان الجوز، لما كنتُ الآن على قيد الحياة. دع كلّ شيء في مكانه، أرجوك، فأنتَ أعلَم مني بكلّ شيء)".
قد لا يمنحنا الله دوماً إجابات فورية مثلما حدث مع جحا، ولكنه حتماً يعطينا دروساً ممتدة، بتراكمها تصنع من كل منا شخصاً له سماته الخاصة جداً الدقيقة للغاية، التي ربما لن يشاركه فيها أحد، بحلوها ومُرِّها، فهل سألت نفسك يوماً عن مَرَارِك قبل حلاوتك؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.