اعتدت حينما كنت أدخل الصف سماع بعض الكلمات من المعلمين: أيها الطلاب، عليكم أن تدرسوا وتجدّوا وتجتهدوا؛ كي تحصلوا على العلامات، عليكم أن تجمعوها درجة درجة؛ كي تنجحوا.
كانت هذه الكلمات شبه محفوظة في مخيلتي كطالب في المرحلة الثانوية، إنها إذن عملية شاقة، مجهدة ومعقدة، من الاختبارات والواجبات والتحضيرات.. يا إلهي، هذا أمر لا أحبه!
ولكن شيئاً قد حصل بعدها غيّر طريقتي لفهم الأمر بشكل مختلف.
إنه أستاذ التربية الإسلامية الجديد الأستاذ عادل، حينما دخل بهيبته وهدوئه وابتسامته وشخصيته القوية، قال لنا بابتسامة جميلة: لدى كل واحد منكم 100 درجة في رصيده، كلكم الآن درجته النهائية في الشهادة هي 100%، غير أني سأمرركم بمحكات بسيطة جزئية تسمى الاختبارات.
يا سلام.. كطالب كسول غير مُحبٍّ للدراسة أخيراً، أنا أملك 100 درجة! لا حاجة إلى أن أقول إن درجتي لديه كانت في التسعينيات.. لقد جعلني أقبل على مادته وأحبها.
لاحقاً، حينما صرت معلماً، كانت هذه الطريقة التي أحدث بها طلابي. وللحقيقة، إني لم أبخل على أي منهم بالدرجات، وتسهيل الامتحانات، والسعي إلى جعل الحصة ممتعة بالقصص والعبر والربط بالمادة، وقد كنت أعلمهم مواد تجارية في الفرع التجاري بالمرحلة الثانوية.
أما الأستاذ صلاح، مُعلم الأحياء والمشرف الإداري بالمرحلة الثانوية، فقد كان حازماً جاداً يحاسبنا على التأخير دقيقة، ويعلمنا بطريقة جميلة، حتى إنه في نهاية كل حصة في الدقائق الخمس الأخيرة، كان يمر على أسمائنا ويعطينا توجيهات وتشجيعات في المشاركة، ويوم أن يمدح مشاركتي كنت أطير من الفرح وكان هذا يحدث في كل حصة تقريباً.. رغم أن منهجيته مختلفة عن الأستاذ عادل، فإنني أحببته وأحببت طريقته أيضاً.. شعرت بأن لكل منهما فضلاً عظيماً في منهجيتهما وطريقة تدريسهما.
في الجامعة، سنة أولى ماجستير، وفي أول محاضرة كان المحاضر الدكتور أحمد يكلمنا عن أسباب دراستنا للماجستير، ثم بعد أن سمع ما نقول، علَّق تعليقاً في غاية الجمال حينما قال: ادرسوا لا لِتحْصلوا على شهادة وإنما من أجل أن تتغيروا، من أجل أن تتقدموا في حياتكم، من أجل أن تستفيدوا، هذا ما يفرق بين طالب وآخر.. كانت كلماته نبراساً ومنهجية عملت فيها بالماجستير ولاحقاً في الدكتوراه.
هؤلاء معلمون في سنوات مختلفة من حياتي، ما زلت أذكرهم وأذكر فضائلهم، ولا أنسى في هذا السياق شُكر الأستاذ حسن (من المدينة المنورة)، الذي قال لي في سنتي الأولى بالتعليم: "اعلم أن الطلاب لن يتذكروا بعد تخرُّجهم ما أعطيتهم إياه من مواد ودروس، ولكن سيحتفظون بذكرياتهم معك، فاحرص أن تكون طيبة جميلة".
كانت هذه النصيحة الأغلى في عملي التربوي.. أعترف بأني لم أفعل ذلك مع كل من درستهم، ولكني حاولت على الأقل.
وقد وجدت ثمرة هذه النصيحة في أكثر من موقف، أحدها أني كنت مسافراً، وفي ذلك اليوم أُصبت بغمة شديدة وكآبة لم أعلم مصدرها، وفي المنطقة الحدودية دخلت للوضوء في صلاة الفجر، وعند دخولي لمحت شاباً أظنني شككت إن كنت عرفته أم لا، ولكني لم أكترث له.. فجأةً اقترب مني وعلى حين غفلة قبّل رأسي وقال: شكراً لأنك درستني قبل سنوات!
أصابني الذهول ولم أعرف كيف أردُّ عليه.. حتى إنه غادر دون أن أخوض معه في حوار مطول.. فرجعت إلى زوجتي بوجه غير الوجه الذي غادرتها به.. وحينما سألتني أخبرتها، فقالت: لعلها إشارة من الله كي يخلصك من همك.. وقد كان فعلاً..
يصيبني الهمّ حينما أجد بعض زملاء المهنة يتعاملون مع طلابهم بندية، وربما كره أيضاً، أو أسمع تذمراتهم التي لا تنتهي من الطلاب وأخلاقهم… ثم يسبّون الزمن الذي يعيشون فيه، رغم أن التذمرات واحدة من قرون!
"يحب الأطفال وسائل الرفاهية في الوقت الحاضر، مما ينتج عنه أنماط سلوكية تنم عن ازدراء للخبرة وإظهار لعدم الاحترام لمن هم أكبر سنّاً. إنهم الآن طغاة مستبدون، ليسوا خاضعين لعائلاتهم.. وهم يناقضون آباءهم.. ويستبدون بمدرسيهم".
قائل هذه الجملة: الفيلسوف سقراط، الذي عاش في عام 390 قبل الميلاد..
حقاً، ليس كل من أمسك الطبشور أو قلم السبورة مُعلماً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.