"مقْصُورَاتٌ": الفعل "يقصر" هُوَ: التَحديدُ والاختِصَارُ فِي الشَيءِ أو
الزَمانِ والمَكَان، قال تعالى: "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً (101" (سورة النساء: 101). أي: جَعلُ الصَلاةِ مُحددةً مُختصَرةً عليكم أنتم أصحَابُ العُذر.
"وقصر مشيد" (سورة الحجر: 45)، "ويجعل لك قصوراً" (سورة الفرقان: 10)،
"قصرٌ-قُصور": الاختصارُ لفئةٍ قليلةٍ من الأشخاص فقط من مجموع الناس عامةً في المَكَانِ الَذِي يَكُونُ لَهُم سَكَناً وَحدَهُم، وهم عادةً من أصحاب الأموال؛ لذلك تُقْصَر هَذِه المَسَاكِنُ الفَارِهَةُ عليهم وحدهم.
"انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)" (سورة المرسلات: 29-32)، "كَالْقَصْرِ": كالشَعْرِ المَقصُوصِ، أي تنثرُ شررها في كُلِ الاتجاهات.
"محلِّقين رؤسكم ومقصرين": ما يتمُ اختصاره من الشَعرِ في الطول هو قَصرٌ أيضاً. وبينما ينزل الشعر متناثراً للأسفل، فإنها -أي جهنم- تدفع حممها للأعلى.
مقصورات في قوله تعالى: "حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام" صَفةٌ لِـ"حُور"، والقصرُ هنا اختصارٌ وتحديدٌ في مَكانِ الإقَامة؛ أي مكان استقرارهن تلك الخيم المٌخصصة لهن. لا نعلم ما هو شكل وحجم وماهية تلك الخيام، ولكنها بالتأكيد شيءٌ يفوق الخيال.
وردت صفةٌ أخرى مشتقة من "القَصرِ"، متعلقة أيضاً بالحور العِين، وهي "قاصرات" في ثلاثة مواضع: "فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ" (سورة الرحمن)، "وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ" (سورة الصافات: 49)، وقوله تعالى: "وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ" (سورة ص: 52).
ثلاثة مفردات: قاصرات، الطرف، أتراب.
"وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ" (سورة ص 52).. لا بُد من التطرق إلى معاني "الطرف" و"أتراب" أولاً؛ لأن معنى "قاصرات" قد أصبح واضحاً.
أولاً: الطَرف
"فسبح وأطراف النهار" (سورة طه: 130)، و"أقم الصلاة طرفي النهار" (سورة هود: 114).
الطرف في الآيتين تعبيرٌ بلاغي، ويعني بداية النهار ونهايته.
"لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ (سورة آل عمران: 127). قطعُ الطرف هنا تعبيرٌ بلاغي أيضاً، ويعني الإضعاف.
"طرفاً" تَعنِي جَانِبَ القُوَّة في العَدُوِ، وقُدرَتهُ القِتالية.
"لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا"، أي إضعافه حتى لا يعود للحرب.
"قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ" (سورة النمل: ).
الطرفُ هنا عندما تَرمُشُ العين، أي قبل أن تغمض عينيك، أو حاسة البصر بارتداد
الضوء للعين ما يؤدي للرؤية.
وبناءً على ما سبق من معانٍ، فإن "قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ"، وكتعبيرٍ بلاغي، تعني الضعيفة الجناح.
ثانياً: "أتراب"
"فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)" (سورة الطارق: 5-7).
"من" هنا تبعيضية، أي جزءٌ منه. وسنرى وبالدليل أن جزءاً بسيطاً ومحدداً من مائي الرجل والمرأة هو ما يتكون منه الجنين.
المَاءُ الدَاِفق هو حَاصِلُ التقاءِ جزء بسيط من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه، أي عُضوَهُ الَتَناسلي الذي يَمتلِئُ دماً فيتصلب وينتصب ويخرج ماءه عن طريق القذف، مع جِزءٍ مُحَددٍ من ماءِ المرآة الخارج من ترائبها وهو جهازها التناسلي.
وقد ورد فِعلُ "الصَلبِ" في القرآن. وهو تَقَاطعُ جُزأين، أحدهما يتصل بالأرض، وصُلبُ الرَجُل هوَ تَشبيهٌ لأدَاةِ الصَلب.
سُميَ جهاز المرأة التناسلي بالترائب، مُشتقٌ كاسم من "التراب"؛ لأنه يخرج منها ماء دافق مثل الماء الذي ينبعُ من الأرض، وهو السائل المُغذي للحيوان المنوي كما يغذي الماء الزرع ومنه -أي من الماء- ما يسهل العملية الجنسية في أثناء ولوج عضو الرجل، ومنه ما تكون ضمنه البويضة بعد خروجها من مكانها معه، ولأنها كالُتربة التي يُبذر فيها البذار.
قال تعالى:"نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ " (سورة البقرة: 223)، عبَّر القرآن الكريم عن العملية الجنسية بالحرث، وهو تعبيرٌ رائع لا يخدش الحياء، وبلغةٍ راقية. أي شبهها بعملية الزراعة التي تتضمن فلاحة الأرض؛ ومن ثم وضع البذار فيها.
ومن الثابت علمياً أن حيواناً منوياً واحداً يقوم بتلقيح البويضة، ومن الثابت علمياً أيضاً أن حيوان الرجل المنوي هو من يُحدد جنس المولود، وقد جمع كتاب الله تعالى الحقيقتين بتعبيرٍ مُختصر هو في غاية الجمال والروعة والبلاغة والإتقان: "الحرث".
يضع الرجل بذرته في ترائب زوجه، فتنمو من جزءٍ من مائها نبتته، أي ابنه أو ابنته في رحمها بإذن الله عز وجل.
"يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16)" (سورة البلد: 15-16).
ذَا المَترَبَة: أي المِسكينُ الذي يكون قريباً لك من جِهة َالأم؛ لأن الأقرباء وذوو القربي هم الذين يكونون من طرف الأب، أي الإخوة والأعمام والعمات.
وبناءً على ما سبق، فإن "أتراباً" تعني كأنهن كُلَهُنَّ خرجن من رحم أمٍ واحدة، أي أنهن يُبْعَثنَ متساوياتٍ في العمر.
وعليه، فإن معنى قوله تعالى: "قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ" كاملاً هو: ضَعِيفاتُ الجناح المُتَساوِياتُ في العمر.
يدعمُ هذا المعنى كلمةُ أخرى تؤدي الغرض نفسه من معنى "أتراب" في قوله تعالى: "وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً"
كواعب:
قال تعالى: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ" (سورة المائدة: 6)، "جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ" (سورة المائدة: 97).
الكَعبُ هو الكتُلَةُ العَظميَةُ النَافِرَة المَعرُوفة.
الكَعبَةُ: هِيَ كُتلةُ البناء الظاهر مِن مُختلف الاتجاهات.
"وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً": الإناث اللواتي يبعثهن الله -تعالى- على جسدٍ واحد متساوٍ في الكتلة والأبعاد، بحيث إنك لن تفرق بينهن وكأنهن خرجن من رحمٍ واحد في الوقت نفسه.
فالتي توفيت أو قُتِلت ولو كان حتى عمرها يوم واحد، وأخرى توفيت أو قُتِلت في سنٍ أخرى قبل البلوغ تُبعثانِ في العمر نفسه وكتلة الجسم.
"إنشاءً، أبكاراً، عُرُباً":
"إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)" (سورة الواقعة: 35-38).
الإِنشَاءُ: هُوَ إِعَادَةُ بِنَاء الجَسَد التُرَابِي الذي كان في الدنيا. قال تعالى: "نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)" (سورة الواقعة: 60-62).
أولاً: النشأة الأولى: أي خلقٌ آدم من تراب.
"أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً" هذا معنى الحَورُ. أي إعادة إنشاء الجسد الترابي للإناث الصِغار
المتوفيات يوم البعث.
ثانياً: "فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً":
أبكَاراً: مُتَعَلِّقة بِعُمرِ الطِفلَة؛ أي جَعلنَاهُن في سِنٍ مُبكرة مُوَّحدةٍ، وبأبعاد الجسد نفسها "كَوَاعِب"، "فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً" (سورة آل عمران: 11)؛ "بُكْرَةً": أي في أوائل النهار.
"عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5)" (سورة التحريم: 5). "الثَيِّب" (بفتح الثاء): مُشتقة من "ثَوَاب"؛ أي: السَاعِيّاتُ للثَوابِ مِمَا سَبَق وتمَّ ذِكرُهُ في الآية الكريمة، "أبكاراً": مبُكِرَاتٍ فِي ذَلك، أَيضاً مما سبق ذكره: "مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ".
ثالثاً: "عُرُباً أَتْرَاباً"
"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (سورة يوسف: 3)؛ أي: لتتفكروا لماذا أُنزِلَ القرآن الكريم بهذه اللغة تحديداً.
"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103)" (سورة النحل: 103).
يتبع…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.