حمولة زائدة.. قصة قصيرة

ماما.. هي ربما أولى كلماته التي سبقت إلى فمه الذي لم يعرف من الكلام شيئاً، واقفاً يتلفت برأسه الصغير، ويحجب ناظريه كراسيُّ القاعدين على القهوة ومؤخراتهم، يتلفت في لهفة على أمه التي تركته لتعرض بضاعتها التي يرغب عنها مرتادو القهوة، وهو ينادي عليها في خوف الضائع، وهي لا تبالي إلا بما تبيع؛ خشية أن تعود بكيس المناديل كما هو.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/22 الساعة 03:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/22 الساعة 03:29 بتوقيت غرينتش

حملته أمه وهناً في بطنها، على وهن فقرها، ارتكز على صدرها نائماً، واستراحت من حمله، وجالت في قهوة وجدتها لتبيع مناديلها التي تقتات منها لتأكل وترضع صغيرها. حمولتها الأساسية حقيبة بلاستيكية كبيرة، تحمل فيها ما تيسر لها حمله من مناديل تتوسل الناس لشرائها؛ حتى لا تعود خاوية البطن والجيب واليدين.

ماما.. هي ربما أولى كلماته التي سبقت إلى فمه الذي لم يعرف من الكلام شيئاً، واقفاً يتلفت برأسه الصغير، ويحجب ناظريه كراسيُّ القاعدين على القهوة ومؤخراتهم، يتلفت في لهفة على أمه التي تركته لتعرض بضاعتها التي يرغب عنها مرتادو القهوة، وهو ينادي عليها في خوف الضائع، وهي لا تبالي إلا بما تبيع؛ خشية أن تعود بكيس المناديل كما هو.

قصيرة هي، حتى لتشعرَ بأنّ دقَّ الفقر على رأسها هو ما قصّر طولها، رفيعة هي، حتى لتشعر بأن الزمان نحت بجوعها تمثالاً بشرياً رفيعاً، تستطيع الرياح الخفيفة أن تذروه، متَّشحة بالسواد من أخمص قدميها إلى رأسها، تختبئ عيناها من وراء حجاب برقعها، في يدها اليمنى صغيرها حمولتها الزائدة، وفي يسراها لقمة عيشها، كيس كبير، يحوي بضاعة صغيرة، تكفي لتطعم بطنين صغيرين.

مناديلها بضاعتها المرهِقة من قلة التصريف؛ لأن المشترين قليلون، وكثير هو الجوع في هذه المدينة، وأكثر منه صدُّ الناس لها، وأقسى منه طريقة الصد، وهي قليلة الحيلة لا تستطيع مسح خجلها من هذا الصد بتلك المناديل، أليست هناك فرضية أن تكون غطت وجهها؛ حتى لا يرى الناس حمرته من قولهم "لا.. ربنا يسهل لكِ".

وصغيرها الحائر المتروك، لا يعرف من الحياة إلا صدر أمه، وسيرها الكثير، وإحجام الناظرين له ولأمه، لم يعرف له من الحياة ذنباً ليُعفوا أبصارهم عن النظر إليهما، صغير هو ليدرك تعقيد المجتمعات وأحكام العيش فيها، قادته خطواته -التي لم يستطع خطوها واقفاً- إلى أمه، خاف أن يضيع منها، فسار إليها حبواً، يجرّ الأرض ويطويها ليصل إلى مركز دائرة حياته.

أما عن لقائهما، فما غَناء القول في وصف اتصال طفل خائف بأم لم تخطط لأن تذوب في الحياة وألمها، لم يبكِ الصغير حين رآها؛ بل تدلّت منه يداه النحيفتان إلى فوق، طالباً منها أن تحمله بلغته التي تفهمها هي، حملته فاطمأن حتى كأنها اعتذرت إليه بأنها تركته وأنه قبل العذر، وسارت في دائرة حياتها التي لا تنتهي، حيث النظرات المحتَقِرة، والسير على غير هدى إلى قهوة أخرى يضيع فيها الصغير وتمد فيها الأم يدها للناس مناديةً فيهم رحمة الله فلا يردّ عليها منهم إلا كِبْرُ إبليس.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد