من منّا لم يحترق بوهج كاتبه المفضل عندما تعرف عليه عن قرب من خلال لقاء تلفزيوني أو صحفي أو إذاعي أو شخصي أو حتى عن طريق قراءة تغريدة يعلن فيها عن رأيه في إحدى الزوبعات السياسية أو في إحدى القضايا الاجتماعية والأخلاقية؟
بعد هذه اللسعة الحارقة ننتقل إلى مرحلة الإنكار "Denial"وتبرير ما حدث بأنه سقطة أخلاقية أو شطحة مزاجية أو كبوة جواد من قِبل كاتبنا المفضل الذي أمضينا حياتنا القصيرة في الاقتباس من كتبه ورواياته في "تويتر" و"الإنستغرام"، وقد يتجاوز الحدّ عند البعض منا بالدفاع عنه في المجالس الثقافية والصالونات الأدبية ودعوة مرتاديها للانتظار والترقب لإعلان الكاتب عن تراجعه واعتذاره أو تبريره على الأقل لما حدث، وربما.. ربما دخل أحدنا في صدام تحول إلى شِجار لأجل عينيّ هذا الكاتب الذي لم يصُن العِشرة وتركنا نواجه لُجج التهكم العاتية دون مركِب أو لوح خشبي نستند عليه في قلب العاصفة.
ثم بعد ذلك والجميع في حالة الترقّب لهذا الإعلان التفسيري.. نتلقى الصفعة الثانية التي عادةً ما تكون على هيئة غيّ الكاتب في طغيانه وعدم تراجعه وإمعانه في رأيه الجديد، بل على النقيض ربما يعلن عن إعجابه الشديد بنفسه بعد هذا التغير الذي طرأ عليه، وكأنه يؤكد لعشّاقه أن ما حدث لم يكن هفوة بل هو نمط حياة جديد قد قرر اعتناقه.
لكن مهلاً هل التغيير أمر خاطئ في حد ذاته؟ قطعاً لا.. لأن "الثابت" الوحيد في هذا العالم هو "التغيير".
إذاً في هذه الحالة هل يتحتم علينا إعلان "الردّة" عن مدرسة هذا الكاتب و"الكفر" بجميع كتبه و"القذف" بالكاتب؟
هل من الممكن أن نُعجب بكتاب معين دون أن نُحسب على كاتبه.. أقصد على توجه كاتبه وتصرفاته؟
أولاً يجب الاتفاق على أن التغيير في حد ذاته ليس بالجريمة، والتراجع عن بعض الآراء السابقة ليس بالتهمة، والتحول عن بعض التوجهات الماضية ليس بالتناقض.
إعلان الكاتب عن تراجعه عن كتاب كتبه أو توجه اعتنقه أو مدرسة فكرية ارتادها في مرحلة من مراحل حياته ليس ضعفاً، بل قوة.. قوة هائلة في الحقيقة وربما يصاحبها القليل من الألم والكثير من التنازلات والأهم من ذلك كله..هذا التراجع هو رديف للشجاعة .. الشجاعة في مواجهة ردود الفعل الهائجة على هذا التغيير.. ردود الفعل المتناقضة بحد ذاتها بين مؤيد ومشجع.
قبل سبر أغوار هذا الموقف الذي أضحى رائجاً في هذه الأيام، يجب الاتفاق على أن تتقبل الآتي:
تتقبل التغيير بغض النظر عما إذا كان للأفضل أو الأسوأ بالنسبة لنا؛ حيث إننا لا نتعامل مع أمور مطلقة؛ ما نراه مناسباً لنا لا بدّ أن يكون غير مناسب لأحدٍ ما وهكذا.
الكاتب إنسان غير معصوم.. الكاتب شأنه شأنك لديه قلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.. الكاتب بشر يتضرع هو بدوره إلى مثبت القلوب بأن يثبت قلبه على دينه.
هل تقبل هذا التغيير يمكن أن يحدث بهذه السهولة التي صغتها منذ قليل؟ قطعاً لا.. حتى بالنسبة إليّ لم يكن هذا التقبل وارداً لو لم أرجع إلى الأصول والبدايات.. جميعنا بحاجة إلى قاعدة ثابتة نقف عليها حتى لو سلّمنا بأن التغيير سنّة كونية.
ربما لم تلاحظ أن ما دعاك للتعلق بهذا الإله الإغريقي -كاتبك المفضل- هو كتابه في الأساس.. كتابه الذي لم يتغير ولن يتغير أيضاً لو أمعنت التفكير قليلاً.. ربما تُصدر طبعات عديدة للكتاب يكون التعديل فيها في الجانب اللغوي أو النحوي أو الإملائي.. لكن نادراً ما نشهد تغييراً في المحتوى.. ربما سيتغير الكاتب وسيدخل في أطوار مختلفة وقد تفقد إمكانية متابعة تقلبات الكاتب لكثرتها.. لكن في المقابل الكتاب الذي أحببته واقتنيته من مالك الخاص وقمت بالتربيت على غلافه وربما دوّنت اسمك على الصفحة الأولى منه.. سيبقى وفيّاً كما تعرفت عليه في البداية.. سيظلّ شامخاً على رفّ مكتبتك وسيبادلك نظرة الامتنان لنظرة الحبّ التي تحتويه بها.. سيبقى راسخاً كما كان دوماً.. لن تستطيع أي قوة بشرية أن تبدّل فيه كلمة أو حرفاً أو أداة ترقيم يتيمة.. لن يتمكن أي بشر كائناً من كان من انتزاعه من مكتبتك.. من انتزاعه من فكرك وذاكرتك ما لم تسمح له أنت بذلك.
لم تقتنع إلى الآن بفكرة إمكانية فصل الكاتب عن كتابه؟ حسناً.. أنا أيضاً لن أقتنع لو عُرضت عليّ هذه المبررات فقط.
يُقال: "عندما نتقاسم الهمّ يصغر.. وعندما نتشارك الفرح يكبر".. إذاً لنجرّب الآن تقاسم "هموم" تغيرات كتّابنا المفضلين مع أشخاص واجهوا نفس المشكلة.
هل تعلم أن سلمان العودة قبل ما يقارب الثلاثين عاماً أصدر كتاباً تحت عنوان "حوار هادئ مع الغزالي" هذا الكتاب قائم على نقد وتصيّد أخطاء الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؟ في يناير/كانون الثاني 2016 أصدر مقالاً بعنوان: "الكتاب الأزرق.. حوار مع الغزالي!" يعلن فيه بصورة ضمنية عن تراجعه عن هذا الكتاب، ووصف نفسه حينها: "قرأتُ نتاج محمد الغزالي العريض أبحث عن سجل أخطائه وأدونها في قصاصات..".
وتساءل فيه: "ما الذي جعل الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين يعتذران بلطفٍ عن تقديم الكتاب؟".
واختتمه بـ:"لم أندم على ما مضى وقُدّر، ولكني لن أكرر ما فعلت، ولن أطبع الكتاب، وسأظل معترفاً بفضل الله عليَّ أن جعلني في قائمة البشر الخطّائين، وأعانني على تصويب نفسي وإشهار مخالفتي لذاتي، ولو بعد حين.
رحمة الله وبركاته على الشيخ الفاضل محمد الغزالي".
في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2017 أصدرت الكاتبة الكويتية سعدية مفرّح مقالاً تحت عنوان: "هذه المعركة في فيسبوك"تنتقد فيه معركة نشبت قبل أيام بين مترجم وناشر عربيين، قالت فيه: ".. عندما وصلت إليّ الرسائل والتدوينات المتبادلة بين الرجلين، حرصت على قراءتها أكثر من مرة، على الرغم من صعوبة الأمر عليّ، بسبب الانحطاط اللغوي الذي لا أكاد أتذكر أنني قرأته في سياق أي معركة سابقةٍ من معارك المثقفين المعتادة! لكنني كنت أريد التأكد من أن ما أقرأه الآن هو الحقيقة التي حجبتها اللغة الرفيعة للترجمات الكثيرة المرصوصة على أحد رفوف مكتبتي بجلالٍ يليق بها!".
يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2017 أنهيت قراءة الرواية الأخيرة لأيمن العتوم "اسمه أحمد" والتي يؤرخ فيها قصة "أحمد الدقامسة" -بإمكانكم البحث عن قصته في الإنترنت- الشاهد بأن فصولاً كثيرة من الرواية تتحدث عن وفاء زوجته "فاطمة" له طوال سنوات سجنه العشرين، بعد أن أنهيت الرواية سارعت إلى البحث عن قصة هذا الشخص.. أول الأخبار التي تصدرت محرك البحث هي زواجه الثاني قبل ثلاثة أيام!
من المطمئن أن ترى أنك لست الشخص الوحيد الذي مرّ بهذه الصدمة.. أليس كذلك؟
لأجلك.. لأجل نفسك.. لأجل الحفاظ على احترامك أمام شخصك قبل الآخرين.. قدّس الكتاب لا الكاتب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.