“مجتمع بلا مدارس” إيفان إيليش “1”| تعاليم نتاج الآخرين لا تُسمن ولا تغني

أما إذا كان هذا يحدث في بلد شديد التقدم "كالولايات المتحدة"، فما هي الحال بالنسبة لدول "شديدة التخلف" كأغلب الدول العربية؟ وددت أن أترك الإجابة لك صديقي العزيز. لا بد أن تعرف صديقي القارئ أن هناك خللاً، ولا يستطيع عاقل أن ينكر ذلك، فليس إيڤان إيليش وحده من يملك العقل.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/13 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/13 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش

الإبداع.. الإبداع.. الإبداع! لماذا كل هذه الضجة حوله؟ ولماذا كثرة التكرار حول أهميته؟ وهل هو أهم من التفوق الدراسي؟ وما المردود المادي منه؟ وهل هو كفيل بحل مشاكل البطالة والتخلف الدراسي والاقتصادي والمعرفي في وطننا العربي؟

حسنًا.. أوافق "إيفان إيليش" على كثير مما ذكره في كتابه "مجتمع بلا مدارس"، خاصة فيما يتعلق بالتأثير السلبي للمدارس، خاصة منها تلك المدارس التلقينية التي هي أكثر المدارس انتشاراً في العالم الثالث، خاصة فيما يسمى بالعالم الثالث بما فيه عالمنا العربي، وإن كانت متفاوتة من بلد لآخر ومتماثلة فتجد هنالك مصر والصومال.

صديقي العزيز.. حريٌّ بالذكر أنه ليس فرداً واحداً كـ"إيفان إيليش" من وقف في صف معارضة المدارس التقليدية، بل هو ليس أول من دعا لهذا، فزِد على هذا عودة جذور هذه الدعوة إلى القرن الثامن عشر الميلادي التي مثّٙلها علماء وفلاسفة عقلانيون، ولا أعني من بينهم التنويريين، بل كان من بينهم المفكر الفرنسي "جان جاك روسو" الذي دعا إلى إغلاق المدارس التلقينية والعودة إلى التفكير الفطري الطبيعي الذي قاد البشرية قروناً طوالاً نحو التقدم والازدهار.

الإبداع ليس مجرد موهبة، بل هو خليط من الموهبة والعمل، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.

أورد "كين روبنسون" -وهو استشاري- كلفته الحكومة البريطانية عام 1997 بإجراء دراسات عن الإبداع والاقتصاد والتعليم، في كتابه "صناعة العقل": "إن السبب الرئيسي في هدر الطاقات أثناء فترة التعليم يكمن في العقلية الأكاديمية التي تركز على تطوير الإمكانات المتعلقة بنواحٍ علمية معينة دون غيرها"، فهذا الجانب الأكاديمي يربط مفهوم الذكاء والقدرات على حد مجالات محصورة حصراً، مما يؤدي بالحتمية إلى هدر كبير من المواهب والطاقات لدى المتعلم، وهذا ثمن باهظ لم يعد بالإمكان احتماله بعد الآن لدى متعلم الألفية الثالثة الذي يواكب عصره زيداً من أفكار لم تكن تدرَّس، بل هو أصبح ليعلم جيداً أن كثيراً من نظريات ما نتاج تفكير آخرين باتت بالخطأ؛ فهو يتعلم الأفعال الخمسة ويصيرون ستةً في الجامعة، ويدرس نظريات الفيزياء الكلاسيكية وفي العام الذي يليه يثبت جُرم عالمها بدراسته للحديثة، وفي النهاية يقولون له إنا لا نميل لإحداهما دون الأخرى.

حقاً هي أنظمة التعليم التي علمتنا ألا نبدع، وهي المدارس التلقينية تقوّض مدى التخيل وتؤطره، وتحد من عبقرية المتعلم بحدها لقدراته في بكور عمره، وها هي المدارس عبث من تعاليم مختبئة وراء كلمات العجز من الناحية التشجيعية ومدلولها الوحيد أننا صرنا نقف إلى حد النقل لا التأليف، إلى حد نتاج الآخرين لا الإضافة.

إن القولٙ بِأن الجامعات سدَّت من حاجة المجتمعات من الأيادي العاملة هو قول صحيح، ولكن ليس بالطريقة التي نعتقدها، بل ليس من الضرورة أن نذكر صحته، وإلَّا فلماذا إذن نطالب بتغيير طرق التعليم ومفاهيمه ومنهجيته المتبعة في المدارس التقليدية وفي الجامعة؟

ولإيضاح ما تصبو أفكاري إليه وددت أن أورد هذه المعلومة: "أثبتت الدراسات أن 80% من خريجي الجامعات في الولايات المتحدة الأميركية يعملون في مجالات لا علاقة لها بتخصصاتهم، وذلك بعد 10 سنوات من تخرجهم".

ماذا يعني هذا؟ تعني هذه المعلومة عدة أمور منها:
1- أن 80% من مخصصات التعليم العالي في الولايات المتحدة فقط تذهب هدراً، ذلك بنظرية نصيب الفرد منهم في المال العام.
2- أن 80% من الشباب الأميركي لا يعرفون حقيقة مواهبهم الفطرية.
3- أن هناك 10 سنوات يضيعها خريجو الجامعات الأميركيون دون إظهار مواهبهم وملكاتهم الإبداعية.

إذن بالمرة فالجامعات لم تسد حاجة المجتمعات من الأيادي العاملة.

أما إذا كان هذا يحدث في بلد شديد التقدم "كالولايات المتحدة"، فما هي الحال بالنسبة لدول "شديدة التخلف" كأغلب الدول العربية؟ وددت أن أترك الإجابة لك صديقي العزيز. لا بد أن تعرف صديقي القارئ أن هناك خللاً، ولا يستطيع عاقل أن ينكر ذلك، فليس إيڤان إيليش وحده من يملك العقل.

إن القول بأن الجامعة سدَّت من حاجة المجتمعات من العقول المفكرة التي ساهمت في تنمية المجتمعات وازدهارها على سابق أشواط؟
الشيخ أحمد ديدات، عمر المختار، والعلامة أبو الأعلى المودودي، وغيرهم كالرافعي، والعقاد، وإيليا أبو ماضي، والكثير من قادة العلوم والأدب والابتكارات، مثل: بيل غيتس، وأغاثا كريستس، والروائي غابرييل غارسيا ماركيز، وويليام شكسبير، وتوماس أديسون، ونيوتن؛ جماعات مفكرة وأسماء نابعة من منطلق انتهجته لنفسي في كيفية اختيارهم، واسم كل منهم قائم على معيارين اثنين: أولًا: إما أن الشخص تخلف عن أقرانه في المدرسة لأي سبب كان، بمعنى أن يكون من المستهجن في ذلك الوقت تخلف الأشخاص عن المدرسة عند حد معين (فالجماعات التي تعارف عندها أن النهاية المقبولة للدراسة هي المرحلة الجامعية)، يصبح عندها الشخص الذي لم يكمل تعليمه الجامعي متخلفاً عن أقرانه، وهكذا.
ثانياً: إما أن للشخص شهرة واسعة أو آثاراً باقية أو أموالاً طائلة أكسبته تلك العظمة، بشرط أن يكون قد بنى هذا بنفسه دون تدخل عاملي النسب والوراثة.

مع ذكري لأسماء هؤلاء الأشخاص لوددت أن أشير إلى أمر بالضرورة، وهو أن تخلف تلك العقول المفكرة عن المدرسة لا يعني تخلفها عن التعليم، فعلى الرغم من عدم تلقيهم التعليم الكامل في المدرسة النظامية، فإنهم استقوا تعليمهم من مدرسة الحياة العظيمة التي مثّٙلت خبرة في التعليم تتجاوز عشرات الآلاف من السنين، خرّٙجت أبطالًا ومفكرين وعلماء عُرفوا منذ الأزل، وحتى يومنا هذا، بل ربما كانت الاستفادة من مدرستهم الحياتية أعظم بكثير من مدرستنا النظامية.

الفكر البشري أغنى وأكثر قدرة ونشاطًا مما جعلتنا أنظمة التعليم نتعقد.
نعود هنا لـ"كين روبنسون" عندما تحدث عن عملية رفع المستويات الدراسية في المدارس والجامعات، وأورد أنه ممكن ألا تُحل المشاكل التي نواجهها بهذا الرفع، بل على العكس فهو لربما قد يؤدي إلى زيادة تعقيدها، فقال: "علينا أن نعيد تقييم الأمور بشكل جديد، بحيث نفهم المعنى الحقيقي للذكاء والإمكانات البشرية، وأن نكوِّن مفهوماً جديداً عن الإبداع".

فنحن جميعاً نملك إمكانات وطاقات نظرية، ولكن بشكل مختلف من شخص لآخر، ولا يوجد أشخاص أذكياء وآخرون غير أذكياء، بل تختلف أشكال هذا الذكاء ومجالاته باختلاف الأشخاص والقدرات، فبعض الناس يتمتع بنظر حاد أو سمع قوي أو بحركة نشيطة أو بتفكير حسابي.. إلخ، ومع ذلك فما يزال ينظر إلى الدراسة الأكاديمية على أنها مقتصرة على فئة معينة من الناس دون غيرها، نظراً لامتلاكها إمكانات معينة تحدد درجة ذكائهم، متجاهلين احتمال وجود إمكانات أخرى في مجالات مختلفة، قد لا تقل أهمية عن "الدراسة الأكاديمية".

أناس وضعوا عقولهم رهناً لحاجتهم هم لا رهناً لإشارات مجتمعاتهم، ولا فيما يعتقدون أنهم سيبدعون فيه، فسلكوا الطريق الذي رسمه المجتمع غير عابثين بمدى توافقهم معه.
"مارغريت تاتشر" – أول رئيسة وزراء في تاريخ بريطانيا وأحد أشهر السياسيين البريطانيين عبر التاريخ- كانت صيدلانية.

الأديب "أرثر كونان دويل" -مبتكر شخصية المحقق "شارلوك هولمز"- كان طبيباً.

"مهاتير محمد" رئيس وزراء ماليزيا السابق الذي له فضل عظيم في إخراج ماليزيا من ظلام العالم إلى ركب التكنولوجيا والنمور الآسيوية، لم تكن دراساته بالاقتصاد ولا الإدارة ولا بالسياسة ولكن كان طبيباً.
الشيخ د. "طارق السويدان" الكاتب والإداري والداعية المشهور، عرفناه بكونه داعية وكاتباً وأخيراً مؤرخاً ولم نعرفه بكونه مهندس نفط كما هو أساساً.

حسناً.. لماذا يدخل هؤلاء تخصصات غير تخصصاتهم؟ ولماذا يضيعون سنين عجافاً من عمرهم في دراسة علوم يقررون في النهاية عدم الاستفادة المباشرة منها؟

يبدو أن ما حدث مع هؤلاء هو ما نمارسه اليوم نحن الآباء مع الأبناء، فعندما نريد أن نشيِّد بطفل نناديه "يا دكتور" أو "يا مهندس"، وذلك تبعاً لتفوقه الدراسي، فإذا ما حصَّل الطفل المعدلات العالية والعلامات بدأنا تواً بزرع هذه القيم الخاطئة فيه، فيتولد عنده شعور بأن النجاح هو الطب والهندسة، وأن الفشل ما سواهما.

وهذا يتعدى الأسرة إلى المجتمع والمؤسسات التعليمية التي تسارع في تكريم المتفوقين دراسياً والذي يطلق عليهم خطأ وبحُسنِ نية: "الموهوبين"، بينما يتم تهميش باقي الطلاب على اعتبار أنهم غير موهوبين، وأعتبر تسمية المتفوقين دراسياً بالموهوبين خطأً؛ لأن التفوق الدراسي -بمعناه الحالي- هو تفوقٌ بالحفظ وقوة الذاكرة لا بملَكات العقل وإبداعاته، فكمٌّ كبير من العظماء لديهم ماضٍ دراسي يشوبه الفشل؛ كـ"ألبرت أينشتاين".

صديقي القارئ :"تبقَى الشهادةُ العلمية في تقديرِي أساساً يعتمد عليه الإنسان بعد عون الله عز وجل، ولكن الاهتمام الأساسي على عقلية الإنسان.. والجامعة الكبرى هي "جامعة الحياة".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد