سؤال يتبادر إلى الذهن عندما نقرأ ونشاهد الكثير من العاملين على مستوى اللاجئين أنهم يقدمون خدماتهم وفق المعايير العالمية، فيتبادر إلى الذهن وهل عيادة متنقلة في مخيم تأكله الرمال هي أعلى المعايير؟ وهل منظمات مثل الأمم المتحدة وغيرها تستغبى القارئ أو المشاهد لتقول إنها وفق معايير الجودة؟ أليست معايير الجودة تقتضي العديد من الضروريات التي لا نشاهدها في المخيمات؟
فالبشر متكدسون في الخيم والحمامات جماعية، وربما تواجد طبيب أو ربما شخص ليس له علاقة بالمجال الطبي، وقد خضع لدورة سريعة، أو أستاذ لا يحمل حتى شهادة إعداد مدرسين يدرس أبناء المخيمات! ما هذا النفاق والفساد؟
والأفسد من ذلك عندما تقوم المنصات الإعلامية بالنشر وفق أيقونة اللطميات، واستجداء المشاعر بأننا فئة مظلومة ضحية لسياسات منظمات المجتمع الدولي الفاسدة… إلخ.
وهنا سأوضح على ماذا تعتمد هذه المنظمات في عملها، وتقديم الخدمات، حتى نوفر سيل المشاعر السلبية وتحويل طاقة هذه المشاعر السلبية لمسبب اللجوء، لعل وعسى نستطيع إيقاف الشلال الذي أوصل 60 بالمائة من العرب إلى لاجئين حول العالم، ووضعوا تحت براثن منظمات وإعلام موازٍ غير رديف، فالعرب يشكلون 5 بالمائة من سكان الأرض، و60 بالمائة من اللاجئين حول الأرض، ويشترون 50 من السلاح حول العالم.
بداية نحن كمجتمعات عربية لا نعرف كثيراً القطاع الثالث أو المجتمع المدني، فهذا المصطلح غائب أو مشوّه في بلاد لسان الضاد، ولكنه ذو وزن ومؤثر في دول أخرى، ومنه منظمات صناعة الرأي التي قد تقلب مزاج ناخب في مدينة معينة لصالح حزب معين، وهذا الشيء يأتي بعد تطور مجتمع مدني معين، ووصول أدواته ومرتاديه إلى مراحل متقدمة، يصبحون قادرين على صناعة الرأي وتغييره، فهم على احتكاك حر ومباشر مع الجمهور، ولكن هذا الشيء لا يمكن أن يحدث في بلاد يحتاج فيها أشخاص إلى موافقة أمنية لتأسيس مجموعة على الواتساب، وهكذا فهذا المجتمع المدني الذي تعمل فيه المنظمات بعيداً عن السياسة لدعم المدنيين وإجبار الحكومات على تقديم الأفضل، له قواعده العالمية والمتفق عليها، وفي حالة وقوع حرب أو زلزال أو أي كارثة في منطقة ما تقوم هذه المنظمات التي تعرف المجتمع المدني جيداً بالتعامل مع الحالة، وخاصة أن أدوات الحكومات في السيطرة وإدارة الشؤون المدنية ربما تصاب في هذه الكارثة، وفي هذا العمل المحدد هنا ليست معايير الجودة العالمية التي تحددها منظمة الأيزو، بل هناك معايير مخففة ودنيا في التعامل مع حالات كهذه يحددها في مجال الصحة ما يسمى كتاب أو دليل (اسفير) الذي يناقش مع الصحة موضوع التغذية في المخيمات وأموراً أخرى، لكنه لا يناقش موضوع التعليم الذي يناقشه كتاب آخر اسمه (الايني)، وفيهما اذا قرأت تجد أن المعايير التي نعرفها في الجودة التي تقدمها منظمة الأيزو ليست مطلوبة في مجال الدعم الإنساني في حالة المخيمات والحروب والكوارث، والقائمين عليه غير مطالبين بتحقيقه، ولن تنقطع رواتبهم إذا قامت إحدى العدسات بالتقاط عدسة ما لعيادة مهترئة ونشرها صاحبها على أنها فضيحة، وقام الآخرون بمشاركتها ملايين أو مليارات أو بليونات المرات، أو شوهد دمار مشفى في منطقة حرب وكان هذا المشفى عبارة عن منزل ريفي بسيط ، فاطمئنوا، في دليل العمل الإنساني هذا يكفي في ظروف الحرب، ولكل اللاعبين على وتر جهل الناس (إن كانوا طبعاً هم كإعلاميين يعملون ذلك)، أقول كما يقول علي عزت بيغوفيتش: (إذا أردتم التخلص من البعوض فجففوا المستنقعات)، فإذا كانت مصلحتكم اللاجئ وصحته، فاذهبوا إلى المستنقع الذي سبّب، ولا يزال وسيستمر مسبباً لمأساة لسان الضاد، وهناك سيرفعكم متباعوكم على أكتافهم كالأبطال، وستأخذ صوركم حينها بليونات التعليقات.
لربما لم يتنبه أو تنبّه أحد إلى ما ورد ذكره سابقاً في إحدى الجُمَل التي كتبتها أن الذي يحدد معايير الجودة هي منظمة الأيزو، أي أن الأيزو أيضاً منظمة؟
نعم هي أيضاً منظمة دولية وعملها يقتصر على المجتمعات المدنية، وفي حالات ودول ليس فيها حرب، بل تدور فيها عجلة التنمية ولا تتدخل فيها الحكومات، وهي تحدد شروط حصول منشأة مدنية على شهادة تثبت أن العمل يتم على أكمل وجه، ولديها معايير تقريباً لكل القطاعات بما فيها القطاع الطبي، فمثلاً يحدد ISO 13485 معايير الجودة لمصنعي الأجهزة الطبية وعائلة iso 9000 تحدد الكثير من الأمور الإدارية في أي مؤسسة وهكذا.
ولكن أكثر القطاعات التي استفادت أو خسرت من الأيزو هما الصحة والتعليم، فالمنتجات الاستهلاكية يمكن الحكم على جودتها قبل الشراء، فبكل بساطة إذا أردت أن تشتري أواني منزلية يمكنك تفحّص المنتج قبل شرائه، أو أن تُجربه أو أن تشاهده عند أحد أقربائك، وإذا نال إعجابك ولبّى معايير الجودة التي في ذهنك فتذهب وتشتريه، ولكن ماذا عن عملية طفل أنبوب؟!
هذه ليست منتجاً محسوساً باليد فهي خدمة غير مرئية، يجب أن يعمل منتج الخدمة عند تسويقها ولإرضاء مشتري الخدمة أن يقربها إلى ذهنه عبر وسائل التسويق المختلفة لإقناعه بأن يجري هذه العملية في المستشفى الخاص به، فإذا كان هذا المشفى قد نال مسبقاً شهادة جودة تثبت أهليته، وأن تجهيزاته وكادره فعلاً يستطيع العمل وفق معايير الجودة، هنا تعتبر هذه الشهادة مفتاحاً للدخول بسهولة إلى السوق، ولأن هذه الشهادة الممنوحة تنم عن رغبة في تقديم الخدمة بتفوق، وأن الجهة التي أصدرتها تراقب الممنوح، سيبقى المشفى بكادره متأهباً لتقديم الأفضل، فأي انتكاسة جديدة لن يرحم الآخرون الذلة.
وممن استفاد من ذلك وبصورة كبيرة مثلاً مشافي الأردن على مستوى المنطقة العربية، فقطاع السياحة الطبية يشكل مورداً اقتصادياً هاماً للأردن، وأيضاً في أستراليا فرابع أعلى صادرات في أستراليا هي الجامعات التي لها نظام جودة عالٍ جداً جعلت منه سلعة لا تركب البحر ضمن حاويات معرضة لخطر الإبحار والغرق، فهي سلعة مهيأة للتصدير، ولكن مشتريها يأتي ليستهلكها في بلد المنشأ، ولكم أن تتخيلوا السنين التي يقضيها المستهلك في أستراليا، وهو يستأجر منزل ويأكل ويشرب، وربما ينشأ عمل، وهناك دراسة تفيد كم يدر السعوديون على أستراليا من نقود فقط بسبب مرافقة المحرم للمبتعثة من أجل الدراسة، فما بالكم بالمبتعثة نفسها؟
تلك التي توقف الدعم السعودي عنهم في ذات يوم في أميركا فأرسلت أميركا مسؤولاً لحل القضية؟
ولكن إلى الآن لم تغطّ منظمة الأيزو كل القطاعات، فبنوك الدم حددت معاييرها منظمة أميركية خاصة، وهناك معايير بريطانية لبعض الأمور تتجاوز في صعوبة تطبيقها معايير الأيزو، فإذا أردت تصدير شيء إلى بريطانيا فيجب أن يتوفر في منتجك مواصفات توافق الجودة البريطانية، والتي هي أعلى حتى من منظمة الجودة، وهذا يدل على الاهتمام والرعاية بالفرد البريطاني.
أما الدول العربية، فالدول التي انتبهت إلى الموضوع قامت بإنشاء هيئات المعايير الوطنية المخففة إما لتسيير أعمالها أو لتأهيل شعوبها لتطبيق معايير الجودة بعد سنوات، فتطبيق هذه المعايير العالمية الفوري هو عملية انتحار حكومي، فلتطبيقها يجب استبدال الشعب والمنشآت والمسؤولين والنظم بغيرها، وهذا شيء مستحيل.
أيضا تعمل بعض الدول في إنشاء شهادات أيزو خاصة بها تُناسب واقعها، فمثلاً قامت هيئة المواصفات التركية باستحداث ما يسمى شهادة (حلال)، والمطعم الذي يضع هذه الشهادة بجانب ترخيصه يخاطب الزبون قائلاً:
(كل المنتجات الغذائية التي في متجري على الطريقة الإسلامية)، وهناك أيضاً فروع في بعض الدول الإسلامية للمكاتب التي تعطي شهادة الحلال لمن يريد.
وأخيراً ستحمل هذه التدوينة رقم 4 في سلسلة تدوينات (داوني)، ولكن لا تحمل الكثير من المعلومات الصحية إلا أنها توضح صورة كانت ضبابية، وتفصل الخطوط المتشابكة عن بعضها وفي جميع طياتها مداواة أفكار أو معلومات، وانتظروني في تدوينة (داوني) التالية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.