يُعدّ الدِّين من مقومات الأمم الأساسية، أمّا الفن إنتاج حضاري، فالدّين له دعوة ينتشر بها في قالب خطابي، والفنّ يتفرّد بذوق وجمالية يتمكن من خلالهما من إنشاء حسّ وجداني لدى المتلقي.
إنّ الخطاب الديني اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة وحتى عبر التاريخ قد لا يعبّر دائماً عن الدين نفسه؛ إنما يعبر عن فهم وتأويل أصحاب الدعوة للنصوص الدينية ومحاولة استغلالها في تسيير واقعٍ ما، من هنا تبدأ المفارقة الطائفية والمذهبية؛ حيث يدبّ الخلاف في الفهم والتسيير، وأحياناً يكون حاداً لدرجة الصدام العنيف والمباشر بين هذه الأطراف، فيصبح هذا الخطاب لعنةً على أصحابه وعلى الأمة، والمحطات التاريخية في هذا الصراع عديدة وشاهدة على ذلك، ومن أبرزها العلاقات الشيعية السنية التي شهدت فترات صراع مرير وأخرى وفاق وتلاحم حسب ما تقتضيه الظروف، وأحياناً يكون الصراع داخل الطائفة الواحدة، وهذا واضح وجلي في واقعنا اليوم، بحيث نجد أصحاب دعوة مذهبية قلة يُبَدِّعُون ويكفرون أبناء طائفتهم والذين اختلفوا معهم في بعض المسائل الفقهية التي أصلاً فيها خلاف واجتهاد بين أئمة الأمة، فنجد مثلاً فرقة أهل السنة والجماعة تعاني من أمثال هذه التيارات المتشددة والمتطرفة، كما أن الطرف الآخر والمتمثل في الشيعة يعاني من نفس المشكلة، فقد يكون هذا نتيجة لسوء فهم الدين فهماً صحيحاً، والتأويل الخاطئ لنصوصه الشرعية، فبالتالي يتحمل الدين الإسلامي أعباء وأخطاء الخطاب الديني لدى هذه الجماعة التي قدمت للعالم صورة مزيفة ووحشية عن الإسلام، فبعدما كان دين رحمة أصبح دين جحيم بسبب هذه الخطابات الحمقاء الجهنمية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
عندما يتحدث بعض الدعاة والمشايخ بمنطق التصفية، أي إقصاء كل مَن هو خارج دائرتنا المذهبية والطائفية هم فقط مَن يمتلكون الحقيقة المطلقة، فتجدهم منشغلين بتبديع وزندقة جَمْع من المسلمين المخالفين لتوجهاتهم حتى وإن كانت سياسية، مع العلم أن السياسة شأن دنيوي ومجال لا يخضع لثوابت وضوابط بل المصلحة هي التي تحدد قانون اللعبة فيه.
فكيف يمكن للآخر أن يتحمَّل ويتقبَّل مثل هذه الخطابات الإقصائية المتشددة؟
العقلية الكنسيّة (سلطة الكنيسة المطلقة) التي كانت سائدة في أوروبا خلال القرون الوسطى المتمثل في استبداد الكهنة واستغلالهم للدين في استنزاف خيرات البلاد واستعباد الناس بمجموعة من الخرافات الدينية كأكذوبة صكوك الغفران، مثل هذه التصرفات من طرف رجال الدين جعلت الشعوب الأوروبية يتخبطون في الجهل لعقود طوال، نفس السيناريو تقريباً يحاك في عالمنا الإسلامي اليوم؛ حيث أصبح يُصَوِّر لنا بعض المتطرفين أنهم حراس الدين، ويمتلكون الوصاية الإلهية في تقرير مصير الناس، فبدل أن يقوموا بالنصح والموعظة، أصبحوا يتحكمون في توجيه عقول الناس فلا يمكن للإنسان أن يفكر ويبحث بحرية ويصرح بآرائه وقناعته؛ إذ أخطأ فقوِّمه وإن أصاب فثمِّنه، لماذا هذا الاحتكار للدين؟
نظراً لهذا التدني في المستوى الخطابي أصبح من الضروري جداً اليوم خلق مساحة من الحرية في البحث وفتح مجال للنقاش والحوار، خاصة في المسائل الخلافية من أجل تقديم رؤية واضحة للإسلام الحقيقي، والمناظرات العلمية هي خير وسيلة لتحقيق هذا المستوى المنشود، بدلاً من أن يتمسك كل فريق بوجهة نظره ويتعصب لرأيه، فهذا يسبب تشنجاً فكرياً وفوضى خطابية تزيد من تمزق الأمة ونكستها الحضارية.
فنحن نعيش عصر التراجع الفكري بامتياز ونتساءل باستمرار: لماذا؟ وكيف حدث ذلك؟ فلا نكلف أنفسنا عناء البحث عن الإجابات ونستمر في الغرق أكثر فأكثر، بينما الأمم الأخرى تسبقنا بسنوات ضوئية؛ لأنها أدركت أخطاءها وتجاوزتها بإحداث ثورة فكرية على المسلمات الخرافية والمناهج الساذجة.
ما عجز عن تحقيقه الخطاب الديني في لمِّ شمل الأمة قد يحققه الحس الفني، فحين تغني "فيروز" (قدس يا مدينة الصلاة) تسافر أرواحنا لزهرة المدائن ثم تعود وهي تحمل معها رسائل الشوق لأقصانا المفقود فنبكي مع "نزار قباني" وهو ينشد: (بكيت.. حتى انتهت الدموع – صليت.. حتى ذابت الشموع – ركعت.. حتى ملني الركوع – سألت عن محمد، فيك وعن يسوع – يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء – يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء).
فيرد "تميم البرغوثي" بقصيدته الرائعة "في القدس"؛ ليهَوِّن علينا فيصفها بعين القصاص مستعيناً في ذلك بأسلوب الرواية؛ حيث يرسم لنا صورتها كاملة وبأدق تفاصيلها.
هؤلاء وغيرهم من الفنانين صنعوا البهجة في قلوبنا ورسموا الدمعة على أعيننا بشاعريتهم العميقة وذوقهم الرفيع ليوحدوا حسَّنا الفني حول قضايا مصيرية لأمتنا التي هانت أحوالها على العدو قبل الصديق.
كما شهدت الساحة أعمالاً فنية عظمى تجسد واقع الأمة وتاريخها؛ فتمجدها أحياناً وتشكو ضعفها وهوانها أحياناً أخرى، فبين الأولى والثانية تمرر رسائل عدة مفادها واصلوا مجدكم العتيق وتخلصوا من ضعفكم اللصيق.
مشى المخرج الكبير مصطفى العقاد -رحمه الله- على رمال الصحاري ليجسد لنا رسالة الإسلام الحقيقية، وكيف انتصرت على المشركين وخرجت من أعماق الصحراء للعالمين، أبدع ففتحت رسالته أقطاراً أخرى لم تصلها جيوش الفاتحين، فتوالت الأعمال السينمائية والدرامية تحمل نفس الرسالة بأذواق مختلفة، ولكن يجمعها حسٌّ فنيُّ واحد.
تحتشد الجموع من كل حدب وصوب في مدرجات المسارح من أجل أن تستمتع بعرض مسرحي أو تشدو بأغنية، فلا يهم في هذا الموقع مَن أنت؟ ومن أين تكون؟ وما هويتك؟ تختفي العرقيات وتتلاشى المذهبية أمام جودة الفن وصِدق الإحساس، الكل متفق على شعور واحد وإحساس واحد، وإن تفاوتت مستوياتهم الذوقية واختلفت تقييماتهم للعروض الفنية، فالخلاف هنا لا يفسد جماليّة الإحساس الفنّي.
قد يقول بعضهم: الفن يهدم الأخلاق ويخرج الأمم من صوابها، أقول لهم: لم تفهموا معنى الفن وأضفيتم عليه مفاهيم زائفة؛ الفن ليس تبرجاً وملاهيَ ليلية، وليس أغاني صاخبة وسلوكات إباحية.. الفن إنتاج حضاري وفي الأصل هو نشاط إنساني يعكس ثقافة الشعوب ومستوى وعيها، هو رسالة إنسانية يتم من خلالها تمرير أفكار بنّاءة وما نلاحظه اليوم من تدنّ في المستوى الفني لا علاقة له بالفن السليم والحقيقي، إنما هو عفن وانتكاسة لأخلاق المجتمعات؛ لذلك لا يجب أن نحصر الفنّ في سلوكات منحرفة وغير لائقة.
بعد هذا العرض السريع يمكن أن نخلص إلى أن الخطاب الديني ضروري وأساس في مجتمعاتنا الإسلامية لا يمكن الاستغناء عنه، لكن يجب ضبط مفهومه والعمل على تقويته من طرف نخبة مثقفة واعية بقضايا أمَّتها ومنفتحة على هذا العالم الفسيح المتعدد الانتماءات، لا تنطلق من خلفيات عرقية ومذهبية، نخبة مستعدة لفتح الحوار والنقاش مع جميع الأطراف هدفها البناء السلمي والسليم لا الإصلاح بالفوضى الخلاقة.
كما أنه واجب علينا المحافظة على رهافة هذا الحسّ الفّني وجودته؛ بل يجب أن نسعى لتطويره وتوظيفه أكثر في خدمة مشروعنا الحضاري ولا نسمح للفاسدين أصحاب الأهواء الضعيفة والأخلاق الدنيئة باستغلاله في ضرب المنظومة الاجتماعية، وإفشاء الانحلال الخلقي بداخلها فيصعب علينا مجابهة الطرفين: التطرّف الدّيني، والفساد الاجتماعي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.