رحلتي من الطب إلى الإعلام (4)| المريض الأول والأخير في مسيرتي الطبية

كانت البدايات الأولى جميلة جدًّا بالنسبة لي، ومما لَفَتَ انتباهي بعد فترة طويلة من الزمن أني كنتُ أستمتع بتأثيث المنزل والديكور وترتيبه وتنسيق الألوان وغيرها من الأمور الفنية، لكني لم أنتبه لهذا الجزء من السعادة إلا بعد حين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/09 الساعة 09:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/09 الساعة 09:03 بتوقيت غرينتش

بعد سنة دراسية عصيبة، عدتُ إلى لبنان أَجُرُّ القليلَ من أمتعتي والكثير من أذيال الخيبة، هذه المرة الأولى التي أواجه فيها فشلًا دراسيًّا بهذا الحجم، ومع سابق الإصرار والترصد.

اعتبرت أن هذه الشهور الصيفية هي حقًّا فرصةٌ لإعادة النظر في أسباب هذه الهزيمة، كنتُ أظنُّ أن قراءتي للأمور موضوعية، وأنني أبحث عن الأسباب الحقيقية وراء ما حدث، وأفضل السبل لتخطي المشكلة، ووصَلْتُ إلى عِدَّةِ نتائج، أهمها تخطي حاجز اللغة التركية الأكاديمية، إضافة إلى التفرغ للدراسة، وتأمين جوٍّ دراسيٍّ مُهَيَّإٍ لطالب مجتهد في كلية الطب! حيث إن السكن الطلابي الذي كنتُ فيه كان ثُكْنَة عسكرية أو سِجْنًا يحتوي على غرف تتسع لـ6 أشخاص! وغرف دراسية لا تجد فيها مكانًا في وقتِ الامتحانات للمذاكرة، أما نحن -معشرَ طلاب كلية الطب- فلا ننقطع عن هذه الغرف يومًا واحدًا.

ولذلك بعدَ استشارة الوالد العزيز ومناقشة الخطة المالية السنوية قررتُ أن أنتقل إلى منزل خاص مع صديق يشاركني الهم والمصروفات.
رجعتُ إلى إسطنبول لتجهيزات المنزل الجديد الذي يبعد عن الجامعة مسافة 5 دقائق مشيًا على الأقدام. كانت رحلة البحث عن منزل في وسط إسطنبول من الأمور الميسرة حينها، سقى الله تلك الأيام!

كانت البدايات الأولى جميلة جدًّا بالنسبة لي، ومما لَفَتَ انتباهي بعد فترة طويلة من الزمن أني كنتُ أستمتع بتأثيث المنزل والديكور وترتيبه وتنسيق الألوان وغيرها من الأمور الفنية، لكني لم أنتبه لهذا الجزء من السعادة إلا بعد حين.

ها نحن الآن في مرحلة جديدة، نظريًّا تخطينا جميعَ العوائق التي واجهتني في السنة المنصرمة بكل ما فيها من بُؤْسٍ ووجعِ ضميرٍ. المنزل الجديد الهادئ والإنترنت المتصل دائمًا والمسافة القريبة من الجامعة واللغة المتمكنة والأوقات المريحة في جدول المحاضرات والامتحانات في الفصل الأول خاصة! هذا وكنتُ قد اجتزتُ جميعَ هذه الموادِّ في السنة الماضية، وعندي الحرية باختيار ما أريد لأرفع بها المعدل العام. اخترتُ بعضَ الموادِّ التي كنتُ قد اجتزتُها على استحياء لأتمكن منها هذه المرة.

إسطنبول الساحرة تبدو مختلفة اليوم، جميلة بكل ما فيها، باستثناء تلك البقعة التي تحمل اسم كلية الطب. توطدت علاقتي بالكثير من الأصدقاء، وأصبحنا نلتقي للدراسة وتناول الطعام كثيرًا وللنزهة نادرًا، يبدو لي أن الحياة قد عادت لطبيعتها، على الأقل بالنسبة لطالب في كلية الطب.
إسطنبول الفريدة من نوعها تدخل موسم الشتاء والامتحانات، إنه موسم هجرة الأدمغة إلى الكتب ذات الأغلفة السميكة والمحتوى الدسم والمقررات الدراسية المعدة من قبل الأساتذة وتلك الأخرى المعدَّة من قبل الطلاب "الفطاحل". التركيز عالٍ والمعنوية مرتفعة بعلاقة عكسية مع درجات الحرارة في منزلي الذي لا تدخله أشعة الشمس!

لم يتضامن أحد مع درجات الحرارة سوى درجات الامتحانات، الصديق الصدوق للسنة الثانية على التوالي، وأكثر ما أخشاه أن تتحول هذه العلاقة إلى زواج كاثوليكيٍّ لا طلاق بعده!

مع انتهاء الاختبارات الجزئية لم يكن الوضع مُطَمْئِنًا، فجهد أشهر بلياليها ذهب هَبَاءً منثورًا وكأن شيئًا لم يكن، وعلى الرغم من ذلك فهذا لا يعني أن الأوان قد فات؛ فالأعمال بخواتيمها وما زال هنالك الكثير من الوقت لتفادي الأزمة! كم كنت صبورًا على ما أنا فيه!

أعلنتُ حالة الطوارئ، واستَجْمَعْتُ قُوَايَ لمزيد من المواجهة؛ لكشف الأعداء والقضاء عليهم، لم أجد سَبَبًا منطقيًّا فيما يحدث معي إلا أن الذاكرة تخونني وقت الامتحانات، وأن التدخل واجب شرعي ومطلب شعبي.

قررتُ حينَها -بصفتي المريض- أن أزور نفسي في عيادتي الوهمية -بصفتي الطبيب- ووصفتُ لنفسي بعضَ العلاجات وأهمها مرهمٌ لركبتي التي تتورم كلما اشتد البرد للسنة الثالثة على التوالي وحبوبُ تقويةِ الذاكرة من فيتامينات B12 وغيرها.

بعيدًا عن كل ما سبق فقد كانت هذه السنة تحمل الكثير من المفاجآت على جميع الأصعدة. مَن كان يُصَدِّق أني تَعَلَّمْتُ إعدادَ طعامي بيدي، حتى أن أمي قالت يومًا: "لا أصدق حتى أرى بعيني". والطعام الذي أتحدث عنه لا يقتصر على شرائح البطاطا المقلية وقطع الدجاج الباهرة الجاهزة ووجبات البيض المقلي، الأمر تعدى هذا بمراحل؛ بدأ بإعداد كل ما سبق في وجبة واحدة، وانتهى بتحضير مقلوبة على الطريقة الفلسطينية! إضافة إلى اختراع وجبات غريبة ومزاجية لم تكتشفها البشرية من قبل وهذا تطور خطير، بل إن الأغرب من ذلك صراحة هو الترتيب والنظافة في المنزل.

إشراقة أمل تبرق من بعيد، الكثير من تفاصيل حياتي تتغير، العالم يثور مع بداية الربيع العربي، وإسطنبول تزدان بجمالها مع فصل الربيع، والغريب أيضًا أن إشراقة الأمل هذه لم تكن مرتبطة بما يحدث داخل أروقة الكلية المقيتة، لم أكن أعلم الكثير عن سبب هذا الأمل، ربما هو إطلاق العنان لنفسي في المطبخ أو على جدار الفيسبوك أو تحرر من كثير من المفاهيم في الحياة.

هل سيموت هذا الأمل؟ وما أخبار الدرجات والاختبارات في الفصل الثاني؟ دعونا نتابع ذلك في المدونة القادمة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد