لأجلك يا منسية أكتب!

أقلّب في المواقع لأجدهم يكتبون "إنشاء الله" فيسلبون حريتك يا نون (إن) في أن تظهري من دون شين تقيِّدك وتشبكك؛ ربما لأنهم لا يفقهون أن "إنشاء" هي كلمة من حروفك أيضاً تعكس معنى آخر غير الذي يقصدونه في هذا السياق، وربما لأنهم لا يهتمون أصلاً بطريقة عرضك وكتابتك.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/07 الساعة 06:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/07 الساعة 06:30 بتوقيت غرينتش

يُزعجني منظر حروفك وهي غير منسقة، وتستفزني مخارجك المبدلة والمشوهة. أقلّب في المواقع لأجدهم يكتبون "إنشاء الله" فيسلبون حريتك يا نون (إن) في أن تظهري من دون شين تقيِّدك وتشبكك؛ ربما لأنهم لا يفقهون أن "إنشاء" هي كلمة من حروفك أيضاً تعكس معنى آخر غير الذي يقصدونه في هذا السياق، وربما لأنهم لا يهتمون أصلاً بطريقة عرضك وكتابتك.

ثم تخرم أذني جملة "المتوفي حديثاً" من إحدى القنوات مع أننا لو عقلناها لعلمنا أنه ما من متوفٍّ غير الله. ثم بعد ذلك، تجد الشاب منا يستغرب لإخفاقه في اقتناص وظيفة بلغة ما، مع أننا في الأصل لا نعرف كيف نعبر عن آرائنا أو نوصل أفكارنا بلغة عربية صحيحة.

في الوقت الذي نبحث فيه جميعاً عن الدورات المعتمدة في اللغة الإنكليزية، وأسهل لغات البرمجة للتعلم وأمهر فنون التسويق والتواصل الاجتماعي لضمان اقتناص الوظيفة، تجاهلنا أن نفقه ما نقول ونعي ما نكتب أولاً بلغتنا الأم.

والمشكلة أنك عندما تخبر أحد زملائك بخطورة ذلك، يهوِّن عليك الأمر مدَّعياً أنه ليس كاتباً صحفياً ليحتاج اللغة العربية، ولا هو بمتقدِّم على وظيفة تدريس للنحو والصرف. دعك من ذلك إذاً، هل أتقنت اللغة الإنكليزية التي تبذل فيها نصف أموالك؟ تعترض طريقنا وتهيمن على مواقع تواصلنا كل يوم إعلانات عن مثل هذه الدورات ثم يتخرج المئات منها لينضموا إلى اتحاد الساخطين على اللغات، غير القادرين على توظيفها واستخدامها.

بل الأدهى من ذلك عندما نتلفظ بالكلمات، تظهر العجائب؛ فلجهلنا بالمخارج الصحيحة لحروف اللغة العربية التي تحتوي على ما هو أكثر وأدق من مخارج الحروف الإنكليزية، أصبحنا ننطق كلمة (think) على أنها (sink) رغم أن لكل منهما معنىً لا يمت إلى الآخر بصلة، ولو كنا على دراية بلغتنا لأدركنا أن مخرج الـ(th) يشبه حرف الثاء، رابع حروف الأبجدية العربية!

ثم تأتي لغة الدعة والراحة "الفرانكو أراب" لتُخبرك بأنه لا حاجة لإرهاق ذهنك بتذكُّر القواعد النحوية الصحيحة أو التفريق بين الهمزات؛ فرسائلك ستصل مشفرة بحروف إنكليزية لا تعني شيئاً للأجنبي مختلطة بأرقام.

ونتاجاً لهذا التشويش، ظهر كتّاب عرب جدد شوّهوا معنى الكتابة والفكر الذي عكف على تشكيله عمالقة الأدب على مر العصور، فأصبحت كتاباتهم تثير شهوتنا نحن الشباب وتدفعنا للطيش بدلاً من أن تكون القراءة وسيلة لتهذيبنا، وأضحى الروائيون يكتبون باللغة العامية في روايات بأكملها، بحجة سهولة إيصال الفكرة وحث الشباب على اقتناء الكتب، ولو أنهم على فهم بلغتهم لاستطاعوا تخيُّر الألفاظ السهلة العميقة التي استخدمها مَن قَبلهم لإمتاعنا بالمعاني الجميلة.

ولكن أفكار هذه الفئة من الكتّاب ومقاصدهم من وراء ما يكتبون أحقر بكثير من أن تُزيَّن بحروف عربية أصيلة! كل هذا تسبب في استسهالنا وتهاوننا باللغة، فبدلاً من تشجيعنا على تعلُّم اللغة العربية الصحيحة؛ حتى نفهم أكبر قدر من الكتب التي نقرأها، أمسينا نقنع أنفسنا بأنه لا داعي لذلك فلدينا ما يكفي من الكتب العامية.

ثم ماذا؟ ثم هي النكسة اللغوية والنحوية؛ ومن ثم الأخلاقية التي نعيشها. فنحن عندما ندرس أي لغة، لا نكتفي بظاهر القول من الألفاظ الشائعة والمفردات التي تساعد على الفهم والتواصل فحسب، وإنما نتعمق بقصد أو من دون قصد منا في عادات وثقافة هذه البلاد وتتحول اللغة من وسيلة للتفاهم إلى غاية، فنسعى إلى تقليد الأفعال وتقمُّص الشخصيات وافتعال العادات وتبنّي الأخلاقيات، وما أبعد العادات الغربية عما تحمله العربية في قصصها وقرآنها من أخلاقيات وآداب!

ولم يكن التعرف على العادات الغربية ومعايشتها عيباً في حد ذاته، إنما تتجلى المعضلة عندما لا نملك مخروناً سليماً ومتأصلاً يجعلنا نميز بين مقبول ومعيب.

اللغة هي بوابة الإنسان إلى عالم العادات والتقاليد والأخلاقيات، ولكننا -وللأسف- وُلدنا في مجتمع مشتَّت، يهتم بظاهر الأمر من امتلاك لسان أجنبي يجيد النطق والحركات، دون تحمُّل تبعاته، وإلا فلماذا تحرص فرنسا كل الحرص على تعليم جميع علومها بلغتها الأم؟ ولماذا تقدِّس ألمانيا، رغم عنصريتها، كل أجنبي يُتقن لغتها ويدرس بها؟

أما حان الوقت لنتصالح مع من وفَّرت لنا سبل الطلب والكلام، مع أول من حرَّكت ألسنتنا وشكَّلت كلمات وجملاً تترجم احتياجاتنا ومشاعرنا وأحوالنا؟ مع لغتنا العربية؟ لا أُعلن الحرب على اللغات الأجنبية، وإنما أدعو إلى التوازن، فبعد كل ساعة أقضيها في تعلم الإنكليزية، أُلحقها بساعة لتعلم العربية.

ولا أقول هنا إن علينا استذكار دروس النحو والصرف، وإنما الاستماع والقراءة وإحاطة أنفسنا بكتب للأدباء القدامى الذين ذاع صيتهم على مر السنين، وهُجرت كتبهم في عصرنا هذا.

ربما لا توجد العديد من المصادر العصرية لتعلُّم اللغة العربية، ولكنها تبقى مسؤوليتنا أن نوفر هذه السبل وأن نُظهر هذه اللغة في صورة مقالات وكتابات ومبادرات؛ لنُخرجها من ظلمات الهجر إلى نور الاستعمال والتوظيف؛ فنحن بتخلّينا عن هذه اللغة نتخلى عن هويتنا ونقول وداعاً لما يميزنا ونغدو نسخاً مكررة. أيحق لنا بعد ذلك أن ندّعي أننا لسنا بحاجة إلى لغتنا العربية؟

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد