في (القُصير) تلك الآية الريفية الفاتنة المنقوشة بالخضرة في سُورة (حمص العدية) في منتصف كتاب الجمال (سوريا) ما زال كلام أبي -رحمه الله- عن ضخامة العاصي أيام صغرهم عالقاً في ذهني، ونحن معه ننظره فنَحسِبُه البحر؛ إلا أن ماءَه حلو طيب للشاربين، فيضحك ويقول: بل هو صغير، جفّ بذنوب العباد، وكان على أيامنا أضعاف ما ترون، وكنا وأيامنا نقضيها فيه رعياً وريّاً، وليالينا نقضيها عنده سهراً وسمراً وحرساً.
وما زالت رائحة أشجاره عالقة في أنفي كلما تذكرته كما (العلّيق) يأخذ بثيابي ونحن نبحث عن توته اللذيذ.
فإن ضاقت بنا الدنيا وضاقت صدورنا بالهموم رمت بنا دراجات هوائية أو نارية على ضفافه، فتسرح خيول الأذهان مع نسمات هوائه وهي تداعب ماءه تعزف مع طيوره أجمل الألحان.
ما زال عرس يوم الجمعة على العاصي كأنه اليوم، بلعب الأولاد ورائحة المشاوي وغسيل الصوف والسيارات، وكل غريب يزور المنطقة ليجلس في مزرعة (أبو عدلان) ومزرعة (سعدية) و(أبو سليم الزهوري) و(محمد خير الزهوري) وغيرهم ممن جعلوا بساتينهم مزارات ومجالس، وما زال أكبر احتفال بضيوفنا أن تكون المأدبة مع منظر مائه ونسيم هوائه؛ وإلا فإنه ما زال (القُصير) ولا أكرمَه أهلها.
وما زال عبق الدماء المهراقة لأبطال (القُصير) الذي قضَوا يوم مجزرة العاصي في أنفي بعد استلام جثامينهم الطاهرة من المشفى العسكري، وقد اختلطت دماؤهم بمائه؛ وكأنه أبَى إلا أن يأخذ من دمائنا ما يبرهن له الوفاء معه والإخلاص له وقد روّى أراضينا فجعلها من أطيب الأراضي لسنين بل لعقود وربما مئات السنين، فكان أن ارتبط باسمه المحبوب لنا جميعاً ذكرى مؤلمة تفتّ في قلب كل أبناء البلد، ذكرى مذبحة العاصي في 24/9/2011م.
تهجم عليّ هذه الذكريات بعد أن لم يبقَ لنا من بلدنا الذي فيه وُلدنا إلا ذكريات تنبعث كل حين في مشهد هنا أو موقف هناك.
تهجم عليّ مع رائحة تزكم النفوس وأنا أجتاز (العاصي) في أنطاكية، فأنظر أبحث في مجراه الصغير؛ لأعاني كثيراً حتى أراه، بل أرى بعضاً من ماء آسنٍ في قاعه، تنبعث منه رائحة تملأ الأجواء.
فوقفت مع نفسي برهةً: أهذا الذي كان لي معه كل تلك الذكريات؟! أهذا العاصي الذي كان لنا بحراً لكنه حلو المذاق؟! أهذا الذي كان وأفضل ما يرجع به الضيف الغريب قِربة ماء يحملها من مائه معه؟! أهذا العاصي الذي ينبع من حيث وُلدنا ونشأنا وقضينا أفضل أيام الزمن الجميل؟!
لكنني أهواه، أعشقه كما أعشق القُصير وحمص، ولن يغيّره في نظري أن تغيّرت رائحته في أنفي اليوم.
إنه هو، لكن شيئاً عبث به فغيّر رائحته، لكنّه الوفيّ الذي عصا التضاريس ومشى من الجنوب إلى الشمال، وكسر الحدود وتهادى من هضاب الهرمل في لبنان واجتاز أراضي حمص وحماة وإدلب واللاذقية واخترق أراضي تركيا لينتهي في البحر المتوسط عند خليج السويدية.
لا بد أن هذا النتن فيه ليس من بلدي، فبلدي كل ما فيها جميل، وكل ما فيها طيب، لكن غلبَ عليها قومٌ لئامٌ فعلوا بأهلها ما فعله يهود بأهل فلسطين؛ بل أشد، أكلوا من خيرنا ونزلوا بيوتنا، ثم طعنونا وطردونا وأقاموا في بيوتنا ومزارعنا، فليس في بلدي اليوم إلا هؤلاء وشرذمة قليلون منا يخدمونهم، فلعل هذا بعض نتنهم، انتهى إليّ وأنا اليوم في بلدي الثاني ليذكّرني بلدي الأول الجميل، و(ينكزني) أن هناك مَن أفسد جماله وغيّر ريحه وطعمَه.
لذا لا أجدني اليوم متضجراً من ريحه؛ فهي طارئة لا تدوم، وكم تمتعت بمنظره طيّباً متدفّقاً في الموضع ذاته من أنطاكية؛ وهذه من غلبة أصله الطيب التي لا أقنط من رحمة الله وأوقن أنها غالبةٌ خبثَ من اغتصبوا أرضَنا وحرمونا بيوتَنا وأرزاقَنا من جند حزب اللات أفراخ حسن الضاحية.
ولن أملّ، وسوف أبقى أتردد وأترقّب عودته لدفقه وزخمه من جديد، وليكن يوماً أو شهراً أو عقوداً؛ فلن أسأم، وسوف أصطحب أبنائي وأحدّثهم كما كان يحدثنا أبي -رحمه الله- عن هذا (العاصي) الذي ينبع من نفسي التي تركتها في ربوع (القُصير) ممزقة بين شهدائها، وكم هو رقيق رحيمٌ خالف القوانين واخترق الحدود ليصب على أطراف نفوسنا المرهقة في بلدنا الجديد؛ ليجدد لنا أننا من (القُصير) إلى (أنطاكية) نحن نحن، سنبقى كما كنا، حتى (عاصينا) جاء معنا وقطع ما قطعنا، وعلى ضفافه نشدو ونعزف أطيب الألحان لبلدنا الأول (سوريا) من بلدنا الثاني (تركيا).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.