في عام 2011 ضجت وسائل الإعلام بخبر الفيلم المسيء للرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي أنتجه الهولندي (أرنود فاندور)، وقد رافق عرضه هرج ومرج في كل البلاد الإسلامية، وعمت المظاهرات الغاضبة بلاداً عديدة.
وقد شاءت الأقدار أن أكون مقيماً في مكة آنذاك وأذكر أن الغضب والحنق قد اعترى الجميع فاعتزمنا أن نذهب للحرم يوم الجمعة لنستمع للخطبة هناك، متوقعين أن كلماته، أي: إمام الحرم، ستشفي صدور قوم مؤمنين، وكان سقف التوقعات عالياً، فنحن في أرض الإسلام وأرض رسول الله، ولكن للأسف أُصبنا بخيبة أمل وبصدمة وكنت أتطلع على وجوه المصلين في الحرم، وهي مكفهرة من الغضب، فإمام الحرم السديس كان في وادٍ، والأمة في وادٍ آخر، فقد كانت خطبته منظومة على شكل سجع، وتتحدث عن كيفية المحافظة على اللغة العربية من الاندثار، وتناسى هذا المتمشيخ كيف يحافظ هو على الدين، بل كيف يحافظ على الأمة العربية والإسلامية.
عندها بات واضحاً لي بشكل لا لبس فيه أن الأنظمة تستخدم نوعين من الجلاوزة في قمع الشعوب؛ إما بقوات مكافحة الشغب التي تستخدم بدورها الهراوات والقنابل المسيلة للدموع، وإما أن تستخدم الدعاة فيطلقون وابلاً من المواعظ المسيلة للدموع، بما يتناسب مع نظام الحكم، والحق يُقال إن الطغاة والوعاظ من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأولئك يظلمون الناس بأقوالهم.
لا عجب إذن فيما قاله السديس قبل أيام، ولمَ العجب وهو إمام برتبة وزير وله معاش وزير ويسكن في قصر منيف ذي أسوار منيعة وتُقله السيارات الفارهة.
لقد صارت الإمامة مهنة تدر على صاحبها الأموال وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به، إنها مهنة سهلة في هذا العصر، فهي لا تحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث ثم ارتداء الألبسة الفضفاضة التي تملأ النظر وتخلبه، ويُستحسن في الإمام أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء.
للأسف فإن غالبية أئمة هذا العصر كالسديس وغيره من الأئمة يصلون بالأجرة ويصومون بالأجرة ويحجون بالأجرة، وهم يريدون من الناس جميعاً أن يصوموا ويصلوا ويحجوا ويطيعوا وليّ الأمر مثلهم، متناسين أن الفقر والكفاح في سبيل الرزق الذي تسببت به سياسات هذه الأنظمة التي يدافعون عنها قد أعمى الناس.
ومن القول الشطط الذي قاله السديس مؤخراً بأن الولايات المتحدة والسعودية بقيادتهما تقودان العالم نحو السلم والاستقرار، وما زلنا نبحث عن هذا السلم والاستقرار حتى هذه اللحظة فلا نراه، ربما الاستقرار الوحيد الذي نشهده هو إبعادهم الحرم المكي بإمامة السديس ومن شابهه من الأئمة عن أزمات الأمة ومشاكلها، وعدم التعرض لها حتى بخطبهم.
هل علم الإمام عبد الرحمن السديس بما يجري في أراكان التي يتعرض المسلمون فيه هناك لكل ما يندى له الجبين من قتل وذبح وتهجير وحرق للبيوت والقرى؟! ويُذكر أن السعودية وهذا الإمام الفذ لم ينبس ببنت شفة عن الأمر وموقفهم هو الأضعف بين المواقف الهزيلة بالأصل، وقد أبهرنا العاهل السعودي قبل أيام بتبرعه بـ15 مليون دولار للاجئين الروهينغا، علماً أن رحلة استجمامه في المغرب كلفت أكثر من ذلك بكثير، أما الإمام السديس فلم نسمع له خطبة يتحدث بها عما يحصل في أراكان من إرهاب وقتل طبعاً طاعة لوليّ الأمر، وهل علم هذا الإمام أن الولايات المتحدة لم تحاول أن تضغط أو تمنع حكومة بورما من هذه الجرائم، وكأن الأمر يروق لها؟ أم أنه لم يقرأ صحيفة عكاظ وهي تصف المسلمين الروهينغا بالمتمردين؟
ومن الجدير بالذكر أن في السعودية 500 ألف مواطن من الروهينغا يقيمون فيها منذ حوالي 77 عاماً، وَجُلهم يقيم في مكة المكرمة ليس بعيداً عن المسجد الحرام ومنزل السديس، وهم يعانون فيها أوضاعاً صعبة جداً، ويعيش بعضهم بإقامات تجدد سنوياً، وتفرض عليهم غرامات مالية كبيرة عند التأخر عن تجديدها، والبعض الآخر يقيم بدون إقامات، ولا يحملون أي وثائق رسمية وترفض السعودية منحهم الجنسية أو جوازات سفر مؤقتة أو أي شيء.
أما عن الوضع الاجتماعي لهم فغالبيتهم فقراء معدمون، ليس لهم دخل سوى الدخل البسيط، يحصلون عليها من المهن التي يعملون فيها ويتراوح دخلهم ما بين (500 و900) ريال، وغالبيتهم ينخرطون في الأعمال المهنية كالسباكة والتجارة والكهرباء والبناء، أو العمل في المكتبات أو كسائقين ينقلون الناس بالأجرة بمركباتهم الخاصة، وأذكر أني ركبت مع أحدهم في إحدى المرات وبعد نقاش دار بيني وبينه أبدى امتعاضه من ظروفهم السيئة؛ حيث قال لي: لقد ولدت هنا وولد أبي أيضاً هنا، ونعيش هنا منذ ما يزيد عن أربعين عاماً وما زلنا نعامل كأغراب نعيش بإقامات وغرامات ولا توظيف لنا، ونعامل بتمييز فعندما يتم إيقافي؛ لأنني أنقل الناس بسيارتي الخاصة يتم سجني وتحجز مركبتي وتوضع غرامات كبيرة عليّ، بينما السعودي لا يعامل هكذا بتاتاً لو قُبض عليه بذات الجُرم.
لقد غيب هؤلاء الأئمة ومن ضمنهم السديس الحرم المكي والناسَ عن أحداث الأمة الجسام، للمحافظة على استقرار مؤقت منشود، أين هؤلاء من العز بن عبد السلام خطيب المسجد الأموي فعندما حالف الملك إسماعيل الصليبيين وسلم لهم صيدا وغيرها من الحصون الإسلامية كقلعة الشقيف وصفد وغيرها من الحصون لينجدوه من نجم الدين بن أيوب ملك مصر، أنكر العز بن عبد السلام الذي كان يلقب بسلطان العلماء في ذلك الوقت بسبب هذه الفعلة، وحاسب الملك عليها من على المنبر في يوم الجمعة، وذم الملك وقطع الدعاء له من الخطبة، فأُخبر الملك بذلك فورد كتابه بعزل العز بن عبد السلام من الخطابة واعتقاله ومنعه من الإفتاء في الناس، ثم بعث له الملك وزيراً له يعدهُ ويُمنيه فقال له الرسول: تُعاد لك مناصبك وزيادة، وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان، فما كان جواب الشيخ إلا أن قال: والله ما أرضاه أن يُقبل يدي، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
سر قوة العز بن عبد السلام في مواجهة السلطان أنه كان أكبر من المنصب وأكبر من الوظيفة، وأكبر من الأسماء، وأكبر من الألقاب، وما كان يستمد قوته منها، ولكن كان يستمد قوته من إيمانه الخالص بالله، فهل تصح المقارنة هنا بين السديس والعز بن عبد السلام؟
ولا أجد أبلغ من قصيدة كتبها الأخطل الصغير عام 1937 يصف بها حال هذه الأمة، التي لم يتغير منذ ذاك الوقت فيقول:
تــُــعـــساً لها من أُمةِ أزعيمها ** جلادها وأمينُها جاسوسها
رُشيت مآذنُها فلم تغضب لها ** غضب الكرام وباعها ناقوسها
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.