الحمد لله، وبعد:
فلم أكن أظنُّنِي سأعمدُ يوماً إلى يراعي لأسكبَ على القرطاسِ موعظةً لمن وعظني، أو لأنثرَ على أمواج الأثير تذكرةً لمن كان بالله يذكِّرُني، لكن ما حيلتي وأنا أرَى الذي عرفَهُ شانئوه قبل محبيه رجلاً جسوراً، وأسداً هصوراً، لا يخشى في الحق لومة لائم.
ثم أنا أراه يسلكُ من السُّبُلِ أوهاها، ومن الفجاجِ أوعَرَهَا، فيسلمُهُ الخطأُ إلى الخطيئات، ويدفَعُهُ الخلافُ إلى التجاوزات، وتحمِلُهُ المراجَعةُ على المكابَرَةِ لا على التراجعات!
كانت البدايةُ حين سمعتُ شريطَك: حوارٌ مع المفتي، فأبصرتُ ما لم أكن أراه، لمّا رأيتك تبصرُ القذاةَ في عين غيرك، ولا ترَى الجذْعَ في عينكْ!
ثم كان اليومُ الذي حضرتُ فيه أحد دروسِكَ في حي الدقي بالقاهرة، وعندما سألتُك عن قولِ الأشاعرةِ في مسألةٍ (لم أعد أذكرُها؛ لأنّ الحدثَ نفسَهُ يفوقُ عمرَ ابني ذي الخمسة عشر ربيعاً).. فأجبتَنِي بقولك: الأشاعرةُ فرقةٌ ضالة!!
فكظمتُ غيظي لهولِ تهوُّرِكْ وعظيمِ جرأتكْ، وأهَلْتُ الترابَ على إعجابي بعلمِكْ 10 أشياء كانت ستحدث لو فازت هيلاري كلينتون بدلاً من ترامب في انتخابات الرئاسة، وقلتُ في نفسي: هذا فِرَاقُ بينِي وبينِك!
من حينها وأنا أتابعُ ألوانَ تعدِّياتِك، وأنواعَ تجاسُرَاتِك.. حتى أسلمتكَ نفسُكَ إلى الاجتراءِ على التكفير، والافتراءِ على مَنْ لا تَمْلِكُ لهُ شيئاً من قطمير.
وكأنّ جَرْأَتَكَ في الحقِّ قد استحالتْ جسارةً طغتْ على شخصيَّتِكَ، وصبغتْ توهُّجَهَا بهوجَاء الغلوَاء، لتصيرَ تعدياً على كل باب، وإصراراً على خوض كلّ عُباب.
ثم ها أنت ذا تركبُ مراكبَ شتَّى في الانتصارِ لغُلُوِّكَ.. فإذا بها تَغْرَقُ واحداً وراءَ الآخر!
فتارةً تذكرُ أنّ كلامك كان في الدينِ وليسَ في السياسة! وتارةً تشكرُ تزكيةَ المجاهيل لك، وتارةً تفاخرُ بشهادة الدكتوراه! وأنتَ تعلمُ أنّها لاتجعلُكَ شيخَ الإسلام!
وإلا فقد كنتَ تمتطي صهوةَ المنابرِ، وتتصدرُ للفتاوى، فتقرِّرُ التقريرات، وتقعِّدُ القواعد.. قبل نيلكَ إياها بأعوام!
هذا وبعد أن وقفتُ على تكفيرِك للدكتور أحمد زويل -رحمه الله- وأخيراً وليس آخراً: تكفيرك للرئيس التونسي ومؤيدي رأيه (ولستُ أكتبُ هذا تزييناً لزخرفِ قولِه بل نصحاً لك، ولا انتصاراً لخطيئةِ فِعله بل إشفاقاً منك عليك!).
ثمّ بعدَ أن رأيتُ حَملَكَ المستشنع على الأستاذين الجليلين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، اللذَيْن جمَعَا مع فهمِ الشريعةِ، فقه الدعوة، وكياسة الحركة، وسياسة الدنيا، وحراسة الدين
وحفظاَ -بحفظ الله لهما ولإخوانهما- تونس.. من المصير الموحشِ الذي يتهَدَّدُ مصر، ومن الهُوَّةِ السحيقةِ التي انجرفتْ إليها سُوريا.
ولمَّا وجدتُ استدلالاتِكَ خاليةً من أثارة العلم، ومن أَمَارةِ الصَّنْعَةِ الفقهية.. رغمَ ما تضمَّنتهُ من الاستنباطات التي تبدو لمن لم يتحرَّ العلمَ شيئاً، حتَّى إذا عرَّضَها الراسخون للتحقيق الحقيق، وللنقد والتدقيق.. بانَ عَوارُها، وانكشفَ هُزَالها، واتَّضَحَ تهافُتُها.
فإنِّي ناصحٌ إياكَ أن تُرَاجِعَ الكبارَ من أهل العلم والأساتذة في هذا الفن، كالدكتور يوسف القرضاوي، وكالعلامة محمد الحسن الددو، في باب ضوابط التكفيرِ الذي صارَ علكَةً تلوكُها في فمك، غيرَ مدركٍ لعواقِبِها، ولا مُبالٍ بجسيم مخاطِرِها، فضلاً عن دعوىَ الإرجاءِ الذي لا تعرِفُ عنه الكثير، وقد غدوتَ ترمِي به كلّ ناصحٍ مشفق يخشَى عليك منك، وأنت تراهم -رغم هذا- خنجراً يطعنُكَ في ظهرك، وهم إخوانك الذين لا يقبل أحدُهُم أن يظلمك أو يسلمك إلى السلطات المصرية الغاشمة، لكنهم يأبون عليك -أيضاً- خوضَكَ في حمأة التكفير، وولوغَكَ في حِمَى التصنيف.
وأما هاني السباعي -المقيم في لندن- ولعلكَ تَخَالُه بدفاعِه عنكَ من حُماةِ ظهرِكْ، وهو الذي يشرّدُ بالكفرِ وأهلِه رغم حصوله على حقِّ اللجوء السياسي من حكومة كافرة تنفقُ عليه وعلى أبنائه!
فهذا وأمثالُه من الجهّال.. ممن يطعنك فعلاً في ظهرك، ويعينُ عليك شيطان نفسِك، ولا ينصرُكُ ظالماً بأن يرفعَ عنكَ ظلمَك، بل يمدّك في الغيّ ولا يقصر غير مدرك!
أخيراً.. سامحك الله وعفا عنك، وأسألُ الله الهدايةَ لي ولك، وأن يرزقنا وإياك توبةً قبل الممات، وتجاوزاً عن الخطايا والزلات، والسلام عليكم ورحمة الله والبركات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.