هذه المقالة هي بمثابة مقدمة لسلسلة مقالات أحاول من خلالها نقل ما أعرفه وتعلّمته من أساتذتي وقراءاتي أو تجاربي البسيطة عن منهجية "الدراما في التعليم" أو استخدام الدراما في السياقات التعلّمية.
سأحاول أن تكون هذه المقالات عملية قدر الإمكان، وتفاعلية قدر الإمكان، وصريحة قدر الإمكان، فلن أسعى لتجميل واقع عملنا أمامكم، وسأحاول أن أقيّم التجربة على قدر استطاعتي ومعرفتي وتطبيقاتي. وإن أكثر ما يشغلني في أي عمل أقوم به: الإمتاع والجودة والفائدة؛ لذا أتمنى أن تكون هذه المقالات ممتعة وذات جودة عالية ومفيدة لكم.
لنبدأ إذاً:
1. ما معنى "الدراما في التعليم"؟
أتفق معك إذا كنت مصاباً بالارتباك بسبب كلمة "دراما"، فكلمة "دراما" ذات معاني متعددة في عقولنا واستخدامنا. "موقف درامي" يمكن أن تعني أنه مؤثر أو مشحون عاطفياً، عندما يقوم شخص بتصرف أو ردّ فعل مبالغ فيه فإننا نصفه بـ"الدرامي"، يمكن أن نصف سلسلة أحداث غير متوقعة لكن ذات معنى قوي بأنها "دراما!".
أيضاً، في عالم السينما والتلفزيون، يمكن أن تعني كلمة "دراما" العمل الجاد الذي يتناول وضعاً إنسانياً والذي يحمل بُعداً عاطفياً في مقابل الكوميديا، التي يتبادر إلى الذهن أنها عمل ساخر وخفيف.
"الدراما" تستحضر إلى ذهننا خشبة المسرح أو شاشة السينما أو التلفزيون، الدراما قد تعني التمثيل، وأيضاً تعني أن مجموعة كبيرة من الناس تعمل معاً بشكل منظم من أجل إنتاج عمل فني ذي معنى لمتلقٍّ (مُشاهِد) معيّن.
بسبب هذه المعاني المتعددة والمربِكة -كل تلك المعاني السابقة سنحتاجها في وقت لاحق- فإنني أفضل في بداية تعريفي بـ"الدراما في التّعليم" أن أستبدل بمصطلح "دراما" مصطلحاً آخر -يجعل فهمنا للمنهجية أسهل- هو "اللعب التّخيّلي في السياقات التعلّمية".
2. ما هو "اللعب التخيّلي" إذاً؟
وأنا صغير لعبت عدداً من أنماط اللعب المتخيّل، ومشاهداتي تقول إن الأطفال ما زالوا يلعبون الأنماط نفسها إلى اليوم:
أ. تقمّص الشخصيات: لقد كنت متأثراً جداً بعدد من الشخصيات الكرتونية؛ مثل: عدنان من مسلسل "عدنان ولينا"، أو شخصيات كابتن ماجد المختلفة، رامي الصياد الصغير، سامبي من مدرسة الكونغ فو، غريندايزر، الليث الأبيض.. وغيرها من الشخصيات، سواء كانت بشرية، أو آلية، أو حيوانات.
وكنت في ألعابي أتقمّص الشخصية، وأقلّد حركاتها، وأستخدم لغتها وطريقتها المميزة في الحديث، وأواجه تحديات وأخطاراً تنتمي إلى عالمها، وأشعر بمشاعرها. بمعنى آخر، لقد كنت أضع قدمي في حذاء شخص آخر وأرى العالم من خلال عينيه ولغته.
ب. محاكاة المواقف الاجتماعية: ومثالها الشهير لعبة البيت بنسخها المختلفة، سواء الأكثر تعقيداً والتي نلعبها عندما يكون هناك عدد كبير من الأصدقاء من أعمار مختلفة، فنقوم بلعب دور الزوج والزوجة والأبناء، ونعيد خلق الأعراف المرتبطة بهذا الوضع الاجتماعي: كيف تتكلم الزوجة مع زوجها، وكيف يرد عليها، وكيف يتعاملون مع الأطفال، مظاهر التعاطف، القسوة، فرض النظام… إلخ.
وكذلك يمكن أن تُلعب بصور مبسطة أكثر، مثل لعبة الصالون التي تقوم فيها الفتيات الصغيرات بقلب طاولة ما وتحويلها إلى صالون تستقبل فيه صديقاتها المتخيلات وتقدم لهن واجب الضيافة، محاكِية الأعراف التي تعلَّمتها من المواقف الشبيهة التي تقوم بها أمها في الحقيقة. أيضاً، يمكن أن نضيف إلى ذلك استحضار الفتيان لحلبات الرقص في حفلات الزواج، ومحاكاتهن أعراف هذه المناسبات، لكن في لعب متخيّل.
جـ. ألعاب المِهَن والوظائف: وهي أمثلة متعددة حقيقةً، كلعبة الطبيب والمريض، أو مدرسة مدرسة التي كنا نقلد فيها ما يحدث في غرفة الصف بين المعلم وتلاميذه، أو لعبة الطبخ حيث تمثل الفتيات والفتية أنهم يعدون أكلاً ما، أو ألعاب البناء حيث نمثل أننا عمّال ونبني بيتاً ما باستخدام الأدوات المتاحة، أو لعبة عسكر وحرامية (يمكن أن تكون في فلسطين: المقاومة وجنود الاحتلال)، وألعاب الحرب التي نمثل فيها أننا جنود ولنا قائد والتي كنا نلعبها في الأعياد، مستغلين توافر الألعاب النارية، وفي أوقات أخرى كنا نستخدم مسدسات الماء والبالونات المملوءة به، وغيرها من الألعاب التي يكون جوهرها محاكاة مهن ووظائف معينة موجودة في المجتمع.
هل يمكنكم الآن الربط بين معاني الدراما المختلفة التي ذكرتها في البداية، وما يحدث في اللعب التخيلي الذي يقوم به الأطفال؟
3. فما هي علاقة اللعب التخيلي بالتعليم؟
أريد أن أؤكد بداية أن اللعب التخيلي هو طريقة طبيعية، وفطرية، وتلقائية يستخدمها الأطفال لاستكشاف العالم المحيط بهم والتعبير عن فهمهم له. وقد رصد عالم النفس الشهير جان بياجيه، صاحب نظرية التطور المعرفي، ظهور اللعب التخيّلي عند الأطفال في مرحلة سماها "المرحلة الرمزية"، وهي مرحلة يبدأ الأطفال فيها بممارسة اللغة أيضاً (سن سنتين تقريباً).
أما الفرق بين ما يفعله الأطفال، وما نفعله نحن بـ"اللعب التخيّلي في التعليم"، فهو إضافة عدد من الأشياء إلى تجربة الأطفال:
أ. انضمام البالغ للعبة: هذا الانضمام الذي سيسهم في نقل التجربة إلى مستوى أكثر عمقاً ويساعد الأطفال والبالغ أيضاً على التطور.
ب. التخطيط: فاللعب التخيلي الذي نقوم به يكون مخططاً ومقصوداً وله أهداف تعليمية معينة -يمكن أن تكون مستمدة من المنهاج المدرسي- بعكس اللعب التلقائي الذي يمارسه الأطفال.
جـ. ظهور عمليات التأمل في العمل، وتقييمه، والتي تهدف إلى أن يدرك الأطفال ما يتعلمونه ويقومون بتقييمه وتطويره بأنفسهم.
4. هل هناك نماذج معينة يمكن أن نسترشد بها لتوظيف الدراما (اللعب التخيلي) في التعليم؟
إن أنجح منهجيات التعلم من وجهة نظري، هي تلك التي تبني على طرقنا الفطرية في التعلم واكتشاف أنفسنا والعالم.
وبالعودة مرة أخرى إلى أنماط اللعب التخيلي التي ذكرتها سابقاً، سيمكنكم ملاحظة مدى المتعة والثراء والتنوع والمعرفة الكامنة في هذه الأنماط المختلفة، والتي تغطي طيفاً واسعاً من مجالات المعرفة الإنسانية، من معرفة النفس، إلى العادات والتقاليد، إلى المهن والوظائف، وما يمكن أن يختزنه كل مجال من هذه المجالات من لغة وآداب وعلم اجتماع وعلم نفس وعلوم وفنون وتكنولوجيا.
وهذا ما لاحظته دوروثي هيثكوت -رائدة منهجية الدراما في التعليم- وتلاميذها من بعدها، وحاولت أن تطور بناءً عليه 3 نماذج تعلّمية تمكّننا كمربّين ومعلمين من توظيف اللعب التخيلي الفطري والطبيعي في تعلّمٍ واسع النطاق ويتضمن حتى المواد المدرسية المعروفة بطريقة تختلف عن الطريقة العقيمة التي تتبعها المدارس التقليدية والتي تدرس فيها المعارف منفصلة بعضها عن بعض، ومنفصلة عن حياة التلاميذ وعواطفهم ومشكلاتهم وحاجاتهم، ومنفصلة عن الأسئلة والمعضلات الأخلاقية المرتبطة بممارسة هذه المعارف في الحياة.
فنماذج دوروثي الثلاثة تحاول أن تصنع تجاربَ تعلّمٍ ترتبط فيها المعارف بعضها مع بعض، وترتبط بحياة التلاميذ وعواطفهم ومشكلاتهم وحاجاتهم، وترتبط بالأسئلة والمعضلات الأخلاقية التي تترتب على ممارستها في الحياة.
هذه النماذج باختصار شديد هي:
أ. الدراما التكوّنية (Process drama): وهو يُعنى أكثر بأول نمطين من أنماط اللعب التخيلي عند الأطفال، أقصد لعب الأدوار واستكشاف المواقف الاجتماعية، وفيها مزيج بين اللغة وعلم النفس والعلوم الاجتماعية.
ب. عباءة الخبير (Mantle of the Expert): ويهتم بألعاب التخيّل المتعلقة بالوظائف والمهن، وفيها يرتدي الأطفال عباءة خبير في مهنة ما، ويقدمون خدمات ومنتجات معينة لزبون، ويكون من حق الزبون تقييم عملهم؛ لأنه صاحب الطلب.
جـ. نموذج تدوير الدور (Rolling Role): في النموذجين السابقين، نقوم بتنفيذ مخطط الدراما التكوُّنية أو عباءة الخبير مع مجموعة معينة من الأطفال من بداية المخطط لنهايته، أما في تدوير الدور فتكون التجربة أشبه بمسلسل تجري أحداثه بين مجموعات مختلفة من الأطفال (صفوف دراسية مختلفة)، نتائج التعلم في صف معين هي معطيات يبدأ منها صف آخر، إنه حوار تعلمي بين الصفوف المختلفة.
تدوير الدور من آخر النماذج التي عملت عليها دوروثي هيثكوت ولم تترك لنا بخصوصه مصادر متاحة غير ما ذكرته في مقال شهير عن نماذجها الأربعة، عنوانه: "سياقات للتعلم الفعال: 4 نماذج لتمتين الروابط بين التدريس والمجتمع" وترجمته مجلة "رؤى تربوية" التي يصدرها مركز البحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطان، وهو متاح إلكترونياً.
5. لم أستطع تخيُّل عمل هذه النماذج، هل المشكلة عندي؟
لا بالتأكيد! لقد ذكرتها مختصرة جداً كما أسلفت؛ وذلك لأنها ستكون محور مقالاتنا القادمة بإذن الله. في المقال القادم، سنبدأ رحلة دراما تكوّنية، أرجو أن تقرب لكم الصورة أكثر.
في النهاية، لا أستطيع أن أختتم مقالي قبل أن أشكر جميع أساتذتي الذين علموني بـ"مدرسة الدراما في سياق تعلمي" والتي تقيمها سنوياً مؤسسة عبد المحسن القطان، المؤسسة الفلسطينية الرائدة في مجال التعليم.
شكراً مالك الريماوي، فيفيان طنّوس، ريتشارد كيرن، وسيم الكردي، كريستين هاتون، يوسف الخواجا، معتصم الأطرش، محمد الخواجا. وشكراً لكل زملائي في الرحلة.
إلى لقاء..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.