كنت أتحدث مع أحد أصدقائي لأؤكد عليه أن يحافظ على شيءٍ (كان قد استعاره منّي) فبادرني بِقَوْلِه "لا تخف. أنا أعلم كم هو غالٍ عندك وسأحافظ عليه جيداً".
الحقيقة أنَّ ما ذكره (من حِرْصِهِ على هذا الشيء والنابع من عِلْمِهِ بقيمته عندي) كان كافياً لي وأشعرني بمدى تقديره لي عَلى المستوى الشخصي.
بعد ذلك وفي نفس اليوم كنت أتحدث مع صديق آخر عن أمرٍ أسعدني حدوثه (وإن كان في مضمونه بسيطاً)، وكان هذا الصديق أول شخص أفكر فيه لأخبره بمشاعري وفرحتي، لكني وجدته يُقَلِّل من سعادتي بِرَدَّة فعل باردة ويُهَمِّش ما حدث كلياً وللأسف، أضاع إحساسي بالسعادة.
الصديق الأول لم يُغِدق عليَّ بأموالِه ليسعدني، والثاني لم يذبحني بسيفه ليقتلني.
لم تكن سوى كلمة قالها الأول فأسعدني بها ولم تكن مجرد كلمة قالها الثاني ولم يُلقِ لها بالاً؛ لأنها أحزنتني وآلمتني بل قل "قتلتني".
هو نجح في حياته بسبب كلمات والده التشجيعية، هي فشلت في تحقيق حلمها بسبب كلمات مُعَلِّمَتِها المليئة بالإحباط، هو فقد الثقة في نفسه بسبب كلمات من مديره يصفه فيها بالفشل، هي تراجعت عن فكرة الانتحار بسبب كلمة قرأتها في آية قرآنية ملأت روحها بالسكينة، هم في الفريق فازوا بالمباراة بسبب "كلمة" حماسية من المدرب ألهبت حماسهم وفجرت طاقاتهم وإمكاناتهم، هو تراجع عن فكرة خير نشرها على "الفيسبوك"، بسبب "كلمة" في تعليق، سخرت من فكرته وهَمَّشَتْهَا، هي تمادت في أخطائها بسبب "كلمة" من صديقتها تهكمت فيها على أفعالها… إلخ.
معظمنا قد عانى ولا يزال يعاني من كلمات أحبطته وهَوَت به إلى وادٍ سحيق مليء بأحاسيس الفشل والضياع والدونية، وبعضنا حالفه التوفيق ليسمع كلمات أعانته وشجعته وجعلته يعانق السحاب ويُسَطِّر قصصاً استثنائية من النجاح في العمل والدراسة والحب وغيرها.
الكثير منا يَعتبر الكلمة التي تخرج من فَمِه مجرد تمرين لعضلة اللسان، ولكنه للأسف يجهل أن الحروب تقوم بكلمة وتوقيع المعاهدات يكون بكلمة، الزواج بكلمة والطلاق بكلمة، الدخول في "ديانةٍ ما" بكلمة، البراءة من السجن قد تكون سببها كلمة، عقوق الوالدين يحدث بسبب كلمة (من حرفين "أُف")، شهادة الزور كبيرة من الكبائر مع أنها مجرد "كلمة"، الصدقة قد تكون كلمة، دخول الجنة قد يكون بسبب كلمة، والخلود في النار قد تسببه كلمة.
دعني أخبرك ما هو أشد من ذلك، منذ آلاف السنين، أرسل الله من هو خيرٌ منّي ومنك إلى من هو شرٌ مني ومنك، أرسلَ نبياً مُؤَيَّداً بمعجزاتٍ إلى شخصٍ قال لقومه: "ما علِمتُ لكم من إلهٍ غيري"، وقال أيضاً: "أنا ربُّكم الأعلى".
أرسلَ موسي وأخاه هارون إلى فرعون، لا لقتله ولا لتعذيبه ولا لتعنيفه ولا حتى لِسَبِّه أو شَتْمِه ولكن أرسلهما أولاً وأخيراً حتى يقولا له "قولاً لَيِّنَاً".
وهناك آية قرآنية سمعناها بآذاننا مئات المرات (لو كنت فظاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا مِن حولك)، ولو سمعناها بقلوبنا وتعمقنا فيها لَوَجَدْنا أنَّ الله سبحانه وتعالي يُبَلِّغنا رسالة مهمة مفادها أن النبي -سيد الخلق، حبيب الله، المعصوم، الموحَى إليه، المُؤَيَّد بالمعجزات – لو كان فظاً وغليظَ القلب لانفَضَّ الناسُ من حوله، حتى مع كل هذه المميزات.
فما بالك بإنسان بلا معجزة ولا وحي ولا هو معصوم ولا هو سيد الخلق ولا حبيب الله؟! ما بالك بشخص عادي كان فظاً غليظَ القلب؟!
فيا من تتعامل بفظاظة وغِلْظَه، يا من لا تبالي بأثر كلمتك، يا من تذبح الناس بكلامك، يا من تسببت كلماتُك في قتل الأرواحِ قتلاً معنوياً قد لا يُرْجَى منه شفاءٌ.. اعلم أنه إذا كانت الأموال هي صدقة للإنفاق على حياة الجسد، فالكلمة الطيبة هي صدقة للإنفاق على حياة الروح، فلتقل خيراً أو لتصمت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.