(1)
كنت أراقبه قبل اندلاع الثورة في 25 يناير/كانون الثاني 2011، طالما اتخذ من كورنيش البحر في سان ستيفانو مستقراً ومقاماً. يعطى ظهره إلى البحر في جفاء، بينما ينظر إلى الشارع وبجواره صندوق الفريسكا الزجاجي النظيف.
عجوز قديم بقِدَم البحر وما يخفيه من أسرار، نحت إزميل التاريخ على وجهه تجاعيد غائرة تدل على جلالة الأحداث، لا يتكلم ولكن تقوم ابتسامته بهذه البلاغة دون حروف.
(2)
خلال أيام الثورة الأولى، غيّر العجوز من مقعده، فأعطى ظهره إلى الشارع والمتظاهرين ووجّه قبلته إلى البحر، لا يتحرك وكأنه فى حوار عميق مع الموجات الزرقاء التى تفقد عنفوانها على رمل الشاطئ الناعم.
تحاول الموجات أن تهرب، ولكنها فى النهاية تعود، تمر الكثير من المسيرات بجواره وسط هتافات حارة مطالبة بسقوط النظام والبحث عن العدل والأمل والحرية، وهو لا يزال متأملاً للبحر متجاهلاً النداءات الصادرة عن المتظاهرين.
(3)
في اليوم الثالث، كان يجلس فى نفس مكانه، ولكنه الآن يصطاد! اتهمته بالجنون واللامبالاة والسلبية. لماذا لا ينضم إلى تلك الحشود العظيمة؟ لا يوجد غيره على كورنيش البحر.
الجميع غاضب مشارك في المسيرات في جميع أنحاء البلاد، حتى البحر شارك فى التظاهرات بموجات هائلة مرتفعة.
(4)
مع اختفاء الشرطة في 28 يناير 2011 ودخول الجيش إلى المدينة، وظهور أول دبابة في شوارع الإسكندرية، جاء الهتاف من القاهرة بأن الجيش والشعب إيد واحدة، وصدّق الرجل العجوز على هذا الهتاف بعد أن قام من مكانه وعزلته وأخذ في توزيع الفريسكا مجاناً على الجنود!
في مساء نفس اليوم، رأيت ضابطاً في الجيش يصفع فتاة بالقلم في حيوانية واضحة؛ لأنها اعترضت على سؤاله لها عن وجهتها.
رأيت أيضاً ضابطاً آخر يقوم بتركيع شاب صغير على ركبتيه فى ذلة ومهانة، حاولت تصوير المشهدين خلسة وهربت بعد أن رآني الضابط وأمر جنوده بمطاردتي.
(5)
في صباح اليوم التالي، رجعت أبحث عن بائع الفريسكا؛ كي أتلو عليه أمر الجنود الذي كان يعطيهم الفريسكا مجاناً وماذا فعلوا بالأمس، لكني لم أجده.
كنت راغباً في أن أحكي له الحكاية التي يتجاهل أن يفتح بابها حتى لا تخرج الثعابين، ذهبت كثيراً ولم أجده، هل مات؟ أو قتله الجنود عن طريق الخطأ كحال الكثيرين؟ هل كفر بالجنود والثورة والثوار والحياة؟ أو ربما غرق وصادق في أعماق البحر إحدى الصدفات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.