كتبتها وحجبت ما يحجب طبقاً للوقار الذي كان يستحق ذلك المنصب الذي يتقلده حاكم البلاد، بثثت فيها شكواي وأنا أخطّ حروفي المتلعثمة خوفاً، وأشطب ما يشطب وأُبقي ما أستطيع فيه شرح عبراتي.
خفت البطش الشديد الذي ترعرعت عليه على ما قد يكون عليه حاكم البلاد من سطوة وجبروت وقسوة، وأنني قليل الحيلة بدون سلطان، إلا أن نشيد البلاد عاد من بقايا ذاكرتي يقدسون حاكم البلاد ويصفونه بأجمل الصفات، ويدعون له بأجمل الدعوات، فقلت في نفسي: لا يمكن لشيخ وقور علَّمني في صغري خوف الإله وهو يخاف الله في العباد، أن يدعو لجبار عنيد لا يخاف الإله، فقررت حينها أن أكتب ما أريد بدون خوف، بدون وجل، مقتدياً بمَن هم قدوتي أمام الله، ممن آخذ منهم فتواي، فحاشا لله أن أصنفهم مع الجهلاء، أو أن لا يكونوا من الأتقياء، ومنهم استقى الحاج فتواه وعاد الضال لطريق الصواب.
أمسكت القلم وعطرت الورقة وابتسمت فأنا أكتب لحاكم البلاد لعله لا يعلم ما آل إليه الحال من فقر وتشرد وجهل ويتم وذل ومهانة، لعله لا يعلم ما نعانيه من برد الشتاء وصقيع الثلوج، أو ألتمس له العذر بأن لديه من هموم الوطن ما يشغله عن توافه شعبه، نعم لديه هموم المسلمين المشردين في الخيام وسط صحراء قاحلة بدون نقطة ماء، أو ربما هو هناك يدافع عن مسلمي الروهينغا، ويعد عدته من الجيوش محملة بالكساء والغذاء، لا كما يفعل آخرون، يرسلون شاحنة قد تكفي لسائق الشاحنة وصحبته، ولا يصل للإعلام إلا ما أرادوا وصوله.
أو ربما يجلس مع الأيتام ويمسح رؤوسهم اقتداء بالصحابة، أو أنه معتكف في صومعته للصلاة، أو يجالس العلماء ليحقق إنجازات للبلاد لا يجاريه في عظمتها إلا العظماء.
نعم فحاكم البلاد الذي كنت أنشد له وأنا صغيرة وزرعوا داخل تجاويف عقلي أنه المنقذ لكل من في البلاد، وأن البلاد إن رحل تُمسي سراباً، وأنه هو البطل الخارق بإشارة منه تُبنى الجبال وترفع السدود وترتفع الأبراج.. هكذا كان في مخيلتي لم أكن آبه بتفاصيل وجهه فقد كونت نوره في مخيلتي الطفولية، ظننت أنه هدية من رب السماء، ينجي العباد من الضياع وينجيهم من الهلاك.. هلاك الأوطان إن رحل، نعم هكذا كانت الأغاني تصدح تبجيلاً وشكراً وتقديراً من العبيد، عبيد السلطان.
ظننت أنه مصدر الغذاء، وأنه لولاه ما كان هناك كساء ولا دواء، وأن الأبراج شاهقة البنيان دليل عز للبلاد، وأن نواعير الماء تسقي عطشى البلاد من الفقراء، وأن الأسواق التي بنيت لولاه ما ارتدى طفل أجمل اللباس، وأن المهرجانات التي تحصل في البلاد ما هي إلا سر من أسرار النجاح وزيادة في النفوذ والسلطان، وأن هذا الوطن ليس فيه منزل للفقراء، وأنه ما من سراديب تحت الأرض تُبنى لمن خاض حرباً ضد السلطان، وما من وسائل تعذيب ضد مَن رفض الخنوع لحاكم البلاد، وما من منفى ولا قتلى ولا جرحى باسم السلطان، فالكل يعظم ويمجد ويقبل قدمي السلطان.
لعلي استيقظت من غفوتي الطفولية أو فطمت نفسي عن تخدير الأعلام، فالجوعى في البلاد أكثر من المتخمين على موائد السلطان، وأن تلك الأبراج العالية ما هي إلا أقنعة تستر فقر البلاد، وتلك النواعير ما هي إلا محاولة توليد فاشلة لإنجازات وهمية بدون تاريخ ولا هوية، وأن بصمة السلطان هي دولة بدون فقر، بدون جهل، هي سلطنة فيها من العدل ما يرفع حراس السلطان، فيمشي بين الرعية دون حاشية، فهو واحد من العامة، وسيعود يوماً للعامة.. ذلك اليوم المُتجاهل المنسي يوم يعود الملك لله الواحد القهار.
لا أدري على مَن ألقي اللوم؟ على معلمي الذي علمني نشيداً يصدح بتمجيد حاكم البلاد، أم على شيخي الذي أرشدني لطريق الإله الذي يبدأ بتمجيد حاكم البلاد، أم على أبي الصامت خوفاً.. وضعفاً.. ورعباً؟
أم ألوم نفسي أني ترعرعت حباً وعندما استيقظت من حلمي علمت أن لا ورق يكتب للسلطان، وأن رسالتي مراقبة قبل أن أرسلها للسلطان، وأن تلك القصص الخجولة عن حاكم البلاد العادل ما هي إلا تراث من الروايات المتوارثة غصباً، وأن كل ما حاولوا حشوه في مخيلتي غصباً نفضته ذاكرتي بعنف ورفضه عقلي بمنتهى الرشد.
ولمَ لا وأنا الذي يجلس على كرسي نظيف يحتسي كوباً من الشاي قرب نهر إنكليزي بعد أن تم نفيي من البلاد؟!
أنا الذي تجرأت يوماً وصرخت مدافعاً عن الفقراء وصدحت وناديت بأعلى صوتي: أيها الجهلاء.. استيقظوا وأيقظوا حاكم البلاد.. فالحكم زائل وسيعود المُلك لرب العباد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.