وقعت لشوشتي في الحب ولم يسمّ عليّ أحد! ويبدو أنني لن أقوم من وقعتي هذه، وإني لأرجو ألا أقوم منها.
إنني أتحدث عن سول، عاصمة كوريا الجنوبية، تلك البعيدة المجهولة، المرتبطة في أذهاننا بالنووي وتهديدات أميركا، التي تقع بين الصين واليابان وكوريا الشمالية. ذات المائة ألف كم مربع، صاحبة الخمسين مليون إنسان، تعود حضارتها إلى ٨٠٠٠ عام قبل الميلاد، واسمها مشتق من مملكة كوريو، السلالة التي سادت منذ القرن الأول قبل الميلاد وحتى العصور الوسطى لتحكم الشرق الأدنى كاملاً وصولاً إلى روسيا.
واللغة الكورية الحديثة هانغول اخترعها جوسنج العظيم في القرن الرابع عشر ليسهل القراءة والكتابة؛ لتصبح متاحة للجميع عوضاً عن الأحرف الصينية المعقدة.
لذا لا عجب أن ترى المكتبات الكبيرة منتشرة في كل مكان، عاصمتها وأكبر مدنها سول ذات العشر ملايين إنسان.
سول الساحرة، اللوحة الإلهية، غابات كثيفة في المنتصف تحيط بها المدينة كطوق دائري رائع؛ ليحميها أخيراً سلسلة من الجبال البركانية تشكل أقصى ما تراه عيناك، ويقسمها من المنتصف نهر هان.
سول الخامسة في أعلى اقتصاد عالمي!
أنا أتحدث عن أحد أربع عمالقة الاقتصاد الآسيوي، السابعة في أكبر تقدم اقتصادي على مستوى العالم والخامسة كأكبر دولة مصدرة من دول العشرين، رابع أكفأ نظام رعاية صحية في العالم، الأولى كأكبر مُنفق على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي، صاحبة أعلى عدد لخريجي العلوم والهندسة، والثالثة عالمياً في معيار رفاهية الشباب Youth wellbeing Index، موطن إمبراطورية سامسونغ وهيونداي – كيا وإل جي.
الدولة الأكثر ابتكاراً في العالم لمدة 4 سنوات متتالية منذ عام 2014 حسب مقياس بلومبرغ للابتكار، صاحبة المرتبة الأولى في كثافة البحث والتطوير، وتصنيع القيمة المضافة، المسجلة لأكبر عدد من براءات الاختراع المودعة من الناتج المحلي الإجمالي، والثانية في كفاءة التعليم العالي والرابعة في كثافة التكنولوجيا العالية وعدد الباحثين، التي أصبحت عام ٢٠٠٥ أول دولة في العالم تنتقل بشكل كامل إلى الإنترنت عالي السرعة، واليوم لديها أسرع سرعة إنترنت في العالم وأعلى ملكية للهواتف الذكية، وتحتل المرتبة الأولى في تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والحكومة الإلكترونية وتغطية 4G.
كوريا الجنوبية صاحبة ظاهرة الموجة الكورية، وثقافة البوب ذات التأثير العالمي، مثل K-بوب وK-دراما والتي بيع بعضها لأكثر من ١٠٠ دولة حول العالم، التي نافست الدراما التركية في بلادنا العربية لتتربع قريباً على عرش الدراما العالمية، والمعروفة بأسلوبها المألوف والعصري المميز!
حسناً لا يهمني أن أقنعكم أنها تستحق الحب، فالحب أعمى، قد تكون دولة متخلفة، المهم أني أحببتها، ولا أريد أن أغادرها، لست أدري ما الرابط العجيب الذي يربطني بهذه المدينة!
بعض الشغف ينقلب حباً، رغبة في الوصل وتوقاً إلى المستحيل؛ لذا كثيراً ما يتحول الحب بعد وصل الحبيب إلى اكتفاء بسبب الملل أو بسبب عدم تطابق التوقعات مع الواقع. توقعت أن يكون حبي لسول كذلك، أنني حال لقائي بها سيزول جنون الحب ليتحول إلى مودة خفيفة تقل مع الوقت لتختفي.
لكني حتى الآن لا أصدق أنني التقيت بها، ومشيت في شوارعها وخالطت ناسها. فبعض الحب يشتعل ويتّقد عند اللقاء وآخر يخفت ويزول، قد يكون النوعان حقيقيين، فالحب صندوق مليء بالمفاجآت، ويجب عليك أن تكون جريئاً كفاية لتفتح كل الصناديق لتجرب كل حب جديد، ولتكمل الطريق للنهاية وأن تتحمل كل المخاطر، لترى من أي نوع سيكون حبك! لتكتشف هل سيكون اللقاء ماء فاتراً، أم بنزيناً قابلاً للاشتعال أو حتى ديناميتاً متفجراً على حين غفلة!
مغادرتي لسول كانت أشبه باستيقاظي من حلم لذيذ، أو كمن أخذ مني الحلوى القطنية الوردية التي كنت غارقة في حلاوتها ونعومتها، كاكتشافي بعد وصولي إلى هدفي أن الرحلة ذاتها هي التي كانت رائعة، كفراقي لحبيب لا أطيق أن أبعد عينيّ عنه، وكلما ودعته، عدت لأحضنه مرة أخرى كأنها الأولى، حتى أترك قلبي بين يديه وصورتي في عينيه للمرة الأخيرة! تلك الجاذبية الفائقة، ذلك المجال المغناطيسي الذي يمتص روحي إلى ثقب أسود عميق لا قرار له! كيمياء المدن تماماً ككيمياء البشر، التي لا فكاك منها! ذلك الحب المجنون الصاخب الوقح النزق المغرق في الأمل السخيف، لكن مسرحه قلبي، أما في الخارج لا يُسمع سوى أصوات حفيف الشجر في شوارع سول الواسعة النظيفة!
في الحب الحقيقي لا يمكن أن تشعر بالغربة، حتى لو التقيت بحبيبك للتو؛ لأن عالم الأرواح لا قيمة فيه للزمن ولا للاعتبارات الشخصية، هو منجنيق عملاق ذو فوّهات لا نهائية تنطلق منها الأرواح بسرعة هائلة وبشكل متواصل؛ لتتشابك وتتآلف أو لتتصادم وتتنافر!
لم أشعر بسول بالغربة التي شعرتها في أوروبا، وكأنهم يقولون لك/ نحن شعوب شرق آسيا البشوشون المتواضعون، مهما تطورنا وتقدمنا، فكلنا بشر متشابهون!
في سول تلتقي المتناقضات لتتحول إلى لوحة رائعة، لو تخيلت مكوناتها جنباً إلى جنب لضحكت من سخافة الفكرة، لكن يصدمك جمالها في النهاية عندما يضعها الله بترتيبه الخاص، تماماً كاللونين الأزرق والأخضر اللذين لا يلتقيان في تنسيق جميل إلا من صنع الله، في خضرة الشجر وزرقة السماء، فهل تخيلت في حياتك مثلاً أن تلبس بنطالاً أخضر وقميصاً أزرق؟ فما بالك بالغابات الخضراء الشاسعة والسماء الزرقاء الممتدة إلى ما لا نهاية؟
كذلك وجدت سول كامرأة عجوز ذات وجه مجعّد، للغاية تلبس ملابس متواضعة، تجر وراءها عربة تسوق مليئة بالخضار والفواكه -التي لا بد أحضرتها لتطهو لعائلتها- تمشي الهُوينى ببطء وهدوء وإصرار؛ لتدخل القطار السريع الذي تفوق سرعته ٤٢٠ كلم في الساعة الذي صنعه أولادها وأحفادها، ولم تستورده بلادها من الخارج؛ لتجلس إلى جانبك في طريقكما إلى غانغام أو إنسادونج، لتخنقك رائحة السمك وأعشاب البحر النفاذة من ملابسها؛ لتحبس أنفاسك قليلاً في اشمئزاز -في البداية- ثم لتطلق حواسك كلها لتستنشق الصورة كاملة لتدخل إلى صدرك وتعشش في خلاياك!
لقد تنفست سول بقوة ثم حبستها في صدري كي لا أطلقها أبداً! تنشّقتها نجاحاً لي! وانتصاراً جديداً وبها سجلت رقماً قياسياً على نفسي!
إنني أشعر وكأني أكتب رسالة حب إلى حبيبتي، وأحاول التعبير عن مشاعري على استحياء، وكأني اكتشفت حباً عذرياً!
فهل أحببت سول حقاً أم أحببت نفسي فيها؟ منذ ما يقرب العامين بدأت أحب هذه المدينة وقررت أني أريد زيارتها، ثم زرتها أخيراً بعد أن كنت واحدة من ١٠ صيادلة أصحاب الإضافة النوعية في مهنة الصيدلة من العالم كله تم منحهم FIP Scholarship للمشاركة في مؤتمر الصيادلة العالمي السابع والسبعين في سول عاصمة كوريا الجنوبية.
أترى حبي لها تحول إلى لهفة مجنونة لتحقيق هدفي لمجرد رغبتي في الإنجاز وحسب؟ على الحالتين هي حبيبة، واكتشفت أن حبي ما زال مشتعلاً! وكيف لا وقد وجدت روحي الضائعة منذ عامين في سول! لمحت طيفها من الطائرة المنطلقة من إسطنبول إلى سول طوال 11 ساعة في السماء، ثم أبصرتها أمامي تضحك في محطات القطار تحت الأرض وفوق أعالي الشجر في الشوارع المنبسطة، وجدتها في طريقي من سول إلى بوسان، في المزارع الخضراء الشاسعة المرتمية على جانبي الطريق، والتقيتها أخيراً في أعلى برج سول لأبكي بين ذراعيها وأنا أروي لها عن اشتياقي وليالي انتظاري، لألثمها في شوق ورغبة، ثم أعيدها إلى صدري في نهاية رحلتي بالطائرة من إسطنبول إلى عمّان، التي كانت -ولأول مرة منذ زمن- بدون حبة منومة خوفاً من ركوب الطائرة.
لقد حرّرتني سول! لقد رميت بنفسي القديمة من أعلى برج سول، تلك التي أثقلها فراق الأحبة، ومزقتها الخيبات، وكبّلها الخوف، لأجد روحاً مقاتلة ونفساً تواقة مشتعلة لا تحُدّها سماء ولا يحكمها بشر!
لكن، أين هي صور سول؟ ولماذا لم أصور أفلاماً عنها؟ أقول لكم: إنني لأعتبر الصور الفوتوغرافية وحتى الأفلام لا روح فيها ولا معنى لها، مقارنة بالصور التي تحفظها الذاكرة؛ لأنها تكون محفورة مع الأصوات والأضواء بل وحتى الروائح! منظر المدينة من أعلى برج سول لا يُنسى، ولا يُختزل في صورة خرساء بكماء، أو فيلم أناني لا تجاوب فيه!
كيف أصور لكم أني أشعر وكأني ولدت من جديد؟ مع رائحة سمك الأنشوفي النفاذة وقريدس البحر الشهي، وشوربة أعشاب البحر الاحتفالية في الصباح الباكر، وأنا أتناول بإصرار غبي التوبكجي الحار جداً مع دموعي المنهمرة، لأمسحها بين كل قضمة وأخرى، عند التصاق كعك الأرز الدبق بأسناني لأعلكه طويلاً في فمي، مع النودلز الثخينة السمينة التي لا تستطيع التشبث ببعضها البعض جيداً على عيدان الأكل المعدنية لتتساقط باستسلام محبب، بعد أن أحاول التقاط الذي أستطيعه ليحرق لساني وأعلى حلقي، قبل انزلاقها في صحن الشوربة الغنية؛ ليتطاير منها القليل ليلوث الطاولة وملابسي في فوضى محببة، ثم لأتسلى بقطعة من مخلل اللفت الكيمشي الشهير الطازج الحار الذي يقرمش كأجمل سيمفونية موسيقية عزفها بشر بين كل لقمة ولقمة، لأنهي وجبتي بحلوى الأرز الشهية المحشوة بالفاصولياء السوداء، ومكعبات جلي الشاي الأخضر المنعشة!
أعطوني كاميرا على وجه الخليقة تستطيع التقاط هذه الصورة عدا الكلمات!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.