أم كلثوم وحاضر الغناء العربي

أما (رياض السنباطي) فقد قرر منذ بداية تعامله مع أم كلثوم بأن يحقق رغباتها في مواجهة سابقيه الذين تأثر بهم واقتبس منهم، فما أن ظهر حتى بدأ الآخرون بالتواري إلى أن أصبح وحيداً في ساحتها، مع بعض المساعدين (محمد الموجي، بليغ حمدي...) حتى رحلت عن الدنيا، وكان رحيله أيضاً، فقدم ألحاناً اختلفت في شكلها، إنما مفرداتها وبناؤها كان واحداً، ومع ذلك فقد اختلف معها وابتعد عنها سنتين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/22 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/22 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش

حقيقة إن صوت أم كلثوم: مميز، واسع المساحة، وجميل النبرة، لم يُعرف قبله صوت بهذه المميزات، تمكن من الانتشار والشهرة لثلاثة أسباب لم تتوفر لأحد:

1- تزامن ظهورها مع أفضل ما أنجب العرب من الملحنين والشعراء.
2- ظهورها في مرحلة تحديث كبرى للغناء بدأها سيد درويش.
3- انطلاق الإذاعة المصرية.

تعتبر مرحلة أم كلثوم الأغنى والأجمل، تلك التي ارتبطت فيها بمحمد القصبجي وزكريا أحمد، حتى منتصف الأربعينات، فغنّت أجمل أغانيها، بقوالبها المعروفة (الدور، الطقطوقة، المونولوج، الموشح)، مع ما أدخل عليها كل المبدعين من تطوير وتحسين؛ إذ شاع المونولوج بجهود محمد القصبجي، وامتد لآفاق لم تكن موجودة من قبل، حتى صار لغة التعبير الأوضح عن النصوص الشعرية، وقارئاً لأعماق الشعور الإنساني.

كما أخذ الدور والطقطوقة على عاتق زكريا أحمد أشكالاً جمالية قصوى، كانت ولا تزال أجمل وأغنى ما عُرف بالغناء العربي، إلى أن كبرت أم كلثوم، وأصبحت ملء السمع والبصر، ومحط اهتمام شديد من كافة فئات المجتمع، لدرجة أن يخطبها أحد أمراء الأسرة الحاكمة، في وقت كان ذلك يعتبر أمراً مستهجناً، مما جعلها تشعر بالقوة، والتفوق، والتفرد، فراودتها نفسها باستثمار تلك العناصر في الهيمنة والسطوة، واحتلال مكان المتبوع بدل التابع، والمطلوب بدل الطالب، وتكريس نفسها كشخصية مستقلة ذات رؤية.

وجدت أم كلثوم مقاومة إزاء تلك المراودة، فحاولت التحرر عبر التلحين لنفسها، وجربت مرتين، فلم تحظَ ألحانها باهتمام يُذكر، فانكفأت، وكفت عن المحاولة، وأيقنت أن الموهبة لا تأتي بقرار، ولا سبيل للاستغناء عن الملحنين، فغيرت خطتها، وكان (أحمد صبري النجريدي) أول من اشتبكت معهم، فعاقبته، ثم قضت عليه، بالتهميش، وتلاه (محمد القصبجي) بعد أن دربها، وعلمها المقامات، وأصول الغناء، وكوّن لها فرقتها الخاصة، ثم إعطائها ألحانه التي وصلت بها الذرى، منها: مونولوج (إن كنت سامح) الذي بيع منه ربع مليون أسطوانة، والمونولوج الأجمل (رق الحبيب)، وعشرات الطقاطيق.

ثم إن أم كلثوم، ولأسباب مالية، قررت اعتماد الأغنية الطويلة، الملائمة لحفلات الإذاعة التي كانت تحييها شهرياً، والتي تشبه أسلوب "الصهبجية"، الذي نال به (صالح عبد الحي) المجد والشهرة والثروة (100 جنيه في الليلة، في حين لم يُدفع لسيد درويش سوى 12 جنيهاً، مما أغضبه وحمله على مغادرة القاهرة)، فجندت له رياض السنباطي، ووصلت مع زكريا أحمد إلى منتصف المسافة، واختلفت مع القصبجي "المُجدد"، ثم تفاقم الخلاف بظهور أسمهان (صوتاً متميزاً وقدرة كبيرة في تأدية الألحان، مع أنوثة طاغية)، واتجاه القصبجي إليها بعد أن وجد فيها ضالته في التجديد، فقدم لها ألحاناً متميزة (أنا اللي أستاهل، أسقنيها، إمتى حتعرف، هل تيم البان، يا طيور…)، فأوغلت جرأته تلك صدر أم كلثوم، ولم تشفع له كل خدماته، فأحالته على التقاعد لأكثر من عشرين عاماً، كان خلالها وإمعاناً في تهميشه وإذلاله، ولأجل لقمة العيش، "مجرد عازف عود" خلفها، وهو المبدع، غزير الألحان، امتدت ألحانه إلى حناجر شريحة واسعة من المغنين ابتداء من منيرة المهدية، وحتى سعاد مكاوي، وعبد الغني السيد، ونازك، ووردة الجزائرية…

ثم توسعت العقوبات والإقصاءات إلى (محمود الشريف)، وزكريا أحمد، الذي أعطاها أجمل الألحان، فقال فيها يوماً: "أم كلثوم خربت بيتي"، فقد هضمت حقه بأربعين ألف جنيه، وتنازعا عشر سنوات في المحاكم حتى تنازل زكريا تحت ضغط الحاجة، كما حدث للقصبجي، وتوفي بعدها مع قرينه اللامع (بيرم التونسي).

أما (رياض السنباطي) فقد قرر منذ بداية تعامله مع أم كلثوم بأن يحقق رغباتها في مواجهة سابقيه الذين تأثر بهم واقتبس منهم، فما أن ظهر حتى بدأ الآخرون بالتواري إلى أن أصبح وحيداً في ساحتها، مع بعض المساعدين (محمد الموجي، بليغ حمدي…) حتى رحلت عن الدنيا، وكان رحيله أيضاً، فقدم ألحاناً اختلفت في شكلها، إنما مفرداتها وبناؤها كان واحداً، ومع ذلك فقد اختلف معها وابتعد عنها سنتين.

أما محمد عبد الوهاب، صاحب المجد في الصوت والألحان، فقد كان أكبر بكثير من أن ينصاع لأم كلثوم، فامتنع سنوات طوال عن التعاون معها، لولا تدخل جمال عبد الناصر "بقرار سياسي" فأرضى كبرياءه.
ومع ذلك كانت أم كلثوم الفائزة باللقاء، مع بعض التنازل، الذي سمي آنذاك: تطعيم ألحان أم كلثوم بآلات غربية.

سَمِعْتُ محمد الموجي في إحدى مقابلاته التلفزيونية يقول بعدما قدم لأم كلثوم لحناً لم يعجبها: فهمت بأنني لا بد أن أراعي مطالب أم كلثوم حتى توافق على ألحاني، فلحنت لها أغنية (للصبر حدود)، "الأنموذج الكلثومي".

وكذلك فعل بليغ حمدي، الذي فهم المطلوب منذ البداية، ونال استحسان أم كلثوم، فارتبط بها حتى آخر أيامها، على الرغم من وجود من هم أكثر منه موهبة وكفاءة، فغنت العديد من ألحانه المتشابهة (سيرة الحب، فات الميعاد، إنت فين والحب فين، بعيد عنك…).

ماذا فعلت أم كلثوم؟
قبل ظهور الأنموذج الكلثومي، كانت في الساحة قوالب غنائية، تناسب مختلف أشكال التعبير، وتراعي مختلف الأذواق، والمجتمعات والبيئات، بما فيها الطابع الغربي، حتى جاءت أم كلثوم لوناً واحداً وطريقة واحدة (الأغنية الطويلة الهجينة)، فقضت على تلك القوالب لصالح "قالبها"، الذي أصبح الأكثر تداولاً في الإذاعات، وفي آذان الناس، عن طريق إرغام الملحنين على صياغته، منهية دور المبدعين الحقيقيين لصالح مغمورين أقل موهبة وإبداعاً وابتكاراً.

كما أدى سلوكها لظهور فئة، من ذوي الموهبة والشهرة، مصابة بهستيريا تقليدها؛ فمُحي التلون والتمايز، وانحدر الجميع في ذات الوادي، حتى أصبح تاريخ أولئك عبئاً عليهم، بعدما كانوا محبوبين بألوانهم، وبشخصياتهم المميزة (محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، وشادية، ومغنون خليجيون كطلال مداح).

كما تسببت أم كلثوم بظُلم فئة من المغنين تزامن ظهورهم معها، أولاً لقياسهم بها، وثانياً بالضغوط التي كانت تمارس عليهم عبر الملحنين (لقد رفضت أم كلثوم طقطوقة على بلد المحبوب، فغناها عبده السروجي، ولاقت نجاحاً، فعادت واستولت عليها)، وعبر الإذاعة المصرية، في موعد وطريقة إذاعة أغانيهم.
وظلم فنانون آخرون من دول عربية، في غمرة الهالة الأسطورية، والمديح الأعمى، والألقاب، والتعصب لأم كلثوم حتى القداسة، وفي الإساءات التي كانت أم كلثوم ترميهم بها، بإطلاق أوصاف غير مستحبة عليهم، واحتقارها لبعضهم، القادمين من بلاد الشام، خصوصاً (فايزة أحمد، سعاد محمد، نور الهدى…)، كانوا سيشكلون تنوعاً يثري الغناء العربي ويزيده انتشاراً.

لقد همشت أم كلثوم، وحيَّدت الخارجين عن إرادتها، ورؤيتها، فتسببت بالحد من مستوى الإبداع، وتكبيل المواهب، ووقف التجديد، وتهشيم التنوع، في مهنة أهم ما فيها، البحث الدائم عن الجديد والتنوع (هذا ما صرح به كمال الطويل يوماً).

والأهم: فقد أسست لنشوء أجيال من المشتغلين بالغناء (أنصاف أو أرباع في الصوت والموهبة)، اتخذتها مثالاً يحتذى، فتُوجت المغني ملكاً ("الهضبة" أو "ملك الميوزيك" عمرو دياب، و"القيصر" كاظم الساهر…)، تحيط به حاشية من الملحنين والشعراء، يحققون مطالبه، فأصبح المغني محوراً للعمل الفني، والأغنية، حسب كفاءة الصوت والظرف والسوق والريع، فحل الخراب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد